ملخص

جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على تعدد الرواية في الحديث النبوي من حيث أسبابه والحِكمة منه، وبيان أنواعه، والآثار المترتبة على جمع الروايات، فمن أهم أسباب تعدد الرواية: تكرار القول في الواقعة الواحدة، واختلاف رواة الحديث في الحفظ، ورواية الحديث بالمعنى، ومن أهم الحكم من تعدد الرواية: التوسعة على الأمة وبيان الصور التطبيقية للحكم الشرعي، أما عن أنواع هذا التعدد فمنها تعدد مع اختلاف المخرج وتعدد الواقعة، ومنها تعدد مع اتحاد المخرج والواقعة، ومنها تعدد ناتج من اتحاد المخرج وتعدد الواقعة، ومن أبرز آثار جمع الروايات: تفسير بعض الألفاظ ومعرفة المراد منها، و معرفة علة الحكم، وتقييد المطلق، وبيان المُجمل، وتخصيص العام، وخلص هذا البحث لنتائج مهمة منها: أن جمع الروايات الحديثية هو الطريق الأمثل لفهم الحديث النبوي، وأن لتعدد الروايات أسبابًا عديدة تدفع شبهة وجود التناقض في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن له حِكمًا عظيمة منها التوسعة على الأمة، وتعدد الصور التطبيقية لبعض العبادات، والتأكيد على فضل النبي صلى الله عليه وسلم.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،

فهذه دراسة تُعنى بمسألة حديثية واسعة الانتشار، تدخل ضمن علوم الحديث، وهي مسألة تعدد روايات الحديث النبوي الشريف، ولهذه المسألة أثر بارز في فقه الحديث، ولها تعلق ببعض مسائل علوم الحديث كعلم مختلف الحديث، وعلم العلل، وقد بذل المحدثون جهوداً عظيمة في توثيق المرويات، وبيان حال الرجال جرحًا وتعديلاً، ودرء ما قد يكون بينها من تعارض بالجمع ما أمكن، أو الترجيح بينها بأحد أوجه الترجيح، أو القول بالنسخ، كما بذلوا جهودًا كبيرة في فهم هذه المرويات، فلا يكفي لاستنباط حكم الاعتماد على حديث واحد وإغفال النظر في مجموع الأحاديث الأخرى لكثرة طرقها واختلاف رواياتها، وهو الذي عبَّر عنه الإمام أحمد بقوله: ”الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا”، وقال ابن معين: ”لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهًا ما عقلناه”، وقال علي بن المديني: ‘الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه” (الخطيب البغدادي، 1993، 2/212)، ويقول القاسمي: “إن التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين… فلا ينبغي أن يهمل أمر واحد منهما بالمرة كما يفعله عامة الفريقين” (القاسمي، 1979، ص283).

فربَّ لفظة غامضة في حديث ترد مُفسرة في حديث آخر، وربَّ رجل مُبهم يرد في رواية مُصرَّحًا به، وربَّ حديث عام يرد تخصيصه في حديث آخر، لهذه الأسباب وغيرها تكمُن أهمية جمع الروايات الحديثية، ولأجل هذا جاءت هذه الدراسة لتبين أهم الأمور المتعلقة بتعدد الروايات.

مشكلة الدراسة:

لما كانت ظاهرة تعدد الروايات ظاهرة واسعة الانتشار ظن بعض الباحثين أن ذلك دليل على عدم ضبط المحدثين لمروياتهم، مما يزرع الشك في صحة الحديث، ويثير بعض الشبهات، فجاء هذا البحث ليجيب عن الأسئلة الآتية:

ما أسباب تعدد الروايات في الحديث الشريف؟

هل من حكمة في تعدد الروايات؟

ما أنواع تعدد الروايات؟

ما الآثار المستفادة من جمع الروايات المتعددة؟

الدراسات السابقة:

هناك عدة دراسات تقترب في موضوعها من هذه الدراسة أو من بعض مباحثها، ومن أبرزها:

1ـ (أسباب تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف)، بحث علمي للأستاذ الدكتور شرف القضاة، والأستاذ الدكتور أمين القضاة، وهو مطبوع في دار الفرقان ـ عمَّان سنة 1985م، ويقتصر البحث على بيان أسباب تعدد الروايات.

      2ـ (أثر جمع روايات الحديث وألفاظه على فهم معناه)، بحث علمي كتبه الدكتور أحمد بن محمد العبيد الأستاذ في قسم السنة وعلومها بجامعة القصيم عام 2009م، وقد اقتصر فيه على آثار جمع الروايات الحديثية.

3ـ (تعدد الحادثة في روايات الحديث النبوي) تأليف الدكتور: حمزة محمد وسيم البكري، وهو من إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ومطبوع في دار أروقة للدراسات والنشر، عمَّان، سنة 2013م، وقد عني الكتاب بقضية تعدد الحادثة في الحديث الشريف، مع بيان الضوابط التي يُعرف بها تعدد الحادثة من عدمه، والقرائن التي يُستعان بها في القول بتعدد الحادثة، والموانع التي تحول دون القول بتعددها، وقد جاء الكتاب بشكل موسع ومفصل في قضية تعدد الحادثة، ويقترب موضوعه من بعض مباحث تعدد الرواية.

وهذه الدراسات تلتقي مع دراستي في بعض المباحث، وتتميز هذه الدراسة بأنها بيَّنت الحكمة من تعدد الروايات، ونقد التوسع فيها من دون توفر شروط الصحة، مع بيان أنواع هذا التعدد وآثاره.

منهج البحث:

اعتمدت في هذا البحث على المناهج الآتية:

1ـ المنهج الاستقرائي: وذلك باستقراء الأحاديث التي اختلفت الرواية فيها، أو تعددت الحادثة فيها بما يكفي لضبط المسألة وتأصيلها.

2ـ المنهج الاستنباطي: وذلك باستخراج الحكم والمعنى الصحيح المراد من الحديث الشريف، واستنباط الحِكَم من تعدد الرواية، وأنواعها وآثارها.

3ـ المنهج الوصفي: وذلك بوصف أنواع التعدد في الروايات، وأثر ذلك على المعاني.

خطة البحث:

قسمت بحثي بعد المقدمة إلى ستة مباحث على الوجه الآتي:

المبحث الأول: التعريف بتعدد الرواية.

المبحث الثاني: أسباب تعدد الروايات.

المبحث الثالث: الحكمة من تعدد الروايات.

المبحث الرابع: أنواع تعدد الروايات.        

المبحث الخامس: آثار جمع الروايات المتعددة.

ثم خاتمة فيها أهم النتائج التي توصلت إليها.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المبحث الأول: التعريف بتعدد الرواية:

هذا المصطلح يشمل كلمتين، وهما: التعدد والرواية، لذا سأقوم بتعريف الكلمتين بشكل منفصل، ثم أذكر تعريف تعدد الرواية بشكل عام:

أولاً: تعريف التَّعدد:

1ـ التعدد لغة:

جاء في لسان العرب: “العَدُّ: إِحْصاءُ الشيءِ، عَدَّه يَعُدُّه عَدًّا وتَعْدادًا وعَدَّةً وعَدَّدَه” (ابن منظور، 1993، 3/281).

وفي المصباح المنير: “التَّعدد: الكثرة” (الفيومي، 2/395).

2ـ التعدد اصطلاحًا:

يمكن تعريف التعدد اصطلاحًا بأنه: كلُّ شيء زاد وكثر وصار ذا عددٍ بعد أن كان واحدًا.

ثانيًا: تعريف الرواية:

1ـ الرواية لغة:

جاء في لسان العرب: ” رَوى الحَديث والشِّعرَ يَرويهِ رِواية وتَروَّاه وروَّيتُه الشِّعر تَرْويَة أي حَمَلْتُه على روايته أي استظهاره” (ابن منظور، 1993، 14/ 348).

وفي المصباح المنير:” رويت الحديث إذا حَملتُه ونقلتُه” (الفيومي، 1/ 246).

مما سبق يتبين أنَّ المراد بالرواية لغة: تحمُّل الحديثِ أو الشِّعر ونحوهما، ونقله.

2ــ رواية الحديث في اصطلاح المحدثين:

عَرَّف المحدثون علم رواية الحديث الشريف بأنه: علم يشتمل على أقوال النبي r وأفعاله، وروايتها، وضبطها، وتحرير ألفاظها (السيوطي، 2014، 1/8).

وعُرِّف كذلك بأنه: علم يقوم على نقل ما أضيف إلى النبي r من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلُقية أو خَلْقية، فهو يتناول ضبط كل حديث ونقله ( الخطيب، 1996، ص11).

وعُرِّف أيضًا بأنه: علم يشتمل على ما أضيف إلى النبي r من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلقية أو خِلقية، وسائر أخباره r قبل البعثة وبعدها، وما أضيف إلى الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم، ورواية المنقول وضبطه وتحرير ألفاظه. وهذا التعريف اختاره الطيبي وابن حجر وزكريا الأنصاري وغيرهم (الكفوي، 1998، ص370).

وهو تعريف يشمل جميع جوانب الرواية ويلم بها إلمامًا كبيرًا، كما أنه يراعي مذهب القائلين بأن الحديث يشمل ما أضيف للصحابي والتابعي.

من خلال التعريفات السابقة يتضح أنَّ موضوع علم رواية الحديث هو: ما أضيف إلى النبي r أو الصحابي أو التابعي، فإنه يبحث في هذا العلم عن روايته وضبطه ودراسة أسانيده، ومعرفة حال كل حديث، ومعنى الحديث وما يستنبط منه من الفوائد.

فعلم الرواية يحقق بذلك غاية عظيمة جدًّا تقوم على المحافظة على الحديث كما ورد، والصون عن الخلل في نقله.

وبناء عليه فإن مصطلح تعدد الرواية يُقصد به:

“أن يذكر النبي r الحديث أكثر من مرة بألفاظ مختلفة” (القضاة، 1999م ، ص5).

وأنَّ المراد بجمع روايات الحديث: تتبع الحديث برواياته وألفاظه وطرقه المختلفة والربط بينها، وجمعها في مكان واحد، أو متن واحد؛ من جميع كتب الرواية.

المبحث الثاني: أسباب تعدد الروايات:

إن لتعدد الروايات أسبابًا كثيرة، من أهمها:

1- تكرار القول في الواقعة الواحدة، وقد كان من هديه r تكرار القول كما روى أَنَس بن مالكt  عَنِ النَّبِي r أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا (رواه البخاري، 1987، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثًا، رقم (94)، 1/48).

وقد أشار الخطابي لذلك في قوله: “إنه r بُعث مُبلغًا ومُعلمًا، فهو لا يزال في كل مقام يقومه وموطن يشهده يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويُشرع في حادثة، وُيفتي في نازلة… وقد تختلف عباراته ويتكرر فيها بيانه ليكون أوقع للسامعين… فيجتمع لذلك في القضية الواحدة عدة ألفاظ تحت معنى واحد” (الخطابي، 1982، 1/68).

 2-  اختلاف رواة الحديث في أي طبقة من طبقات الإسناد في الحفظ والضبط، أو اختصار الحديث من بعضهم، أو الجمع بين حديثين، أو ما يحدث لبعضهم من شك، وإدراج، وقلب، أو اختلافهم في وصف فعله r.

بمثل: ما رواه الخطيب البغدادي عن أبي قَطَن و شَبَابَةُ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:r  “أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ”، وَهِمَ أَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ الْقُطَعِيُّ وَشَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ شُعْبَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ كَلامُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: “وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ” كَلامُ النَّبِيِّ r (الخطيب البغدادي، 1997، ص59).

وقد اتضح الإدراج هنا من خلال رواية البخاري: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ – وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّؤونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ–  قَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ r قَالَ : «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب غسل الأعقاب، رقم (163)، 1/73).

3- رواية الحديث بالمعنى؛ فمن الرواة من يروي الحديث بالمعنى اختصارًا، أو إفتاءً، أو ورعًا، أو لسبب آخر، وتختلف عباراتهم في ذلك (طاهر الجزائري، 1995، 2/750). وقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز الرواية بالمعنى بشرطين: أن لا يكون الحديث مُتعبدًا بلفظه، وأن لا يكون من جوامع كلمه r (عياض اليحصبي، 1959، ص174ـ178)، وأضاف ابن الصلاح شرطاً آخر وهو : العلم بالألفاظ وبما يحيل المعنى.

فقال: “والراوي إذا لم يكن عالمًا بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها لم تجز له رواية ما سمعه بالمعنى” (ابن الصلاح، 1986، ص80).

4ـ اختلاف حال المخاطبين: فقد كان رسول الله r يخاطب كل شخص بما يناسبه، وهذا عين الحكمة والصواب، ولذلك فقد يجيب عن السؤال الواحد بأجوبة متعددة في حالات متعددة. (القضاة، 1999، ص5ـ12)، وليس في ذلك تعارض، بل هو من باب معرفة خصائص الناس وطبائعهم، واختيار ما يناسب أحوالهم وحاجاتهم، وقد ظهر ذلك في اختياره r للألفاظ والعبارات والمعاني والأساليب البلاغية، واختياره للوسائل التعليمية التي تحمل تلك الألفاظ والمعاني والأساليب.

يقول النووي في شرحه لحديث المُسيء لصلاته: “وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقه على المهم دون المُكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها” (النووي، 1972، 4/108).

وقال الشوكاني بعد ذكره للحديث الذي سئل فيه النبي r عن المباشرة للصائم فرخص للشيخ ونهى الشاب (رواه أبو داود، كتاب الصيام، باب كراهيته للشباب، رقم (2387) 2/312، وإسناده حسن): “إذنه للشيخ يدل على أنه لا يجوز التقبيل لمن خشي أن تغلبه الشهوة، وظنَّ أنه لا يملك نفسه عند التقبيل، ولذلك ذهب قوم إلى تحريم التقبيل على من كان تتحرك به شهوته، والشاب مظنة لذلك” (الشوكاني، 1992، 4/587).

5ـ اختلاف سماع الصحابة للحديث.

فقد كان النبي r يُلقي كلامه بأفصح بيان، وكان الصحابة يتلقونه عنه باختلاف قربهم وبعدهم منه، وبتباين ملكاتهم في التَّلقي، فيؤدي كلٌّ منهم ما سمعه عن النبي r، فينشأ وجه من الاختلاف في بعض ألفاظ الحديث، فيكون سببًا للتعارض الظاهري بين الروايات؛ لذا نجد قول الخطابي رحمه الله في ذلك: “وقد يحتمل ذلك وجهًا آخر، وهو أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحج، فحكى أنه أفردها، وخفي عليه قوله: وعمرة، فلم يحكِ إلا ما سمع، وهي عائشة، ووعى غيرها الزيادة فرواها، وهو أنس” (الخطابي، 1932، 2/140).

وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم يدخل ورسول الله r يتحدَّث فيفوته ما قيل قبل دخوله، وقد يخرج بعضهم ورسول الله r يتحدث فيفوته ما قيل بعد خروجه، وكان بعضهم يحضر الحديث كله، فيروي كل منهم ما حضره وسمعه؛ فتتعدد الروايات وتختلف زيادةً ونقصًا (القضاة، 1999، ص23).

المبحث الثالث: الحِكمة من تعدد الروايات:

إن لتعدد الروايات في الحديث الواحد حِكَمًا جليلة، وسأعرض هنا أهم هذه الحِكَم:

أولاً: التَّوسعة على الأمة (البكري، 2013، ص41ـ50).      

يمكن أن تكون الرواية قد تعددت لوقوع حادثة ما على الوجه نفسه أكثر من مرة، ويُمكن أن يكون وقوعها على وجه شبيه بما وقعت عليه أول مرة، وهذا يتضمن حكمة جليلة، وهي التوسعة على الأمة بعدم إلزامها بكيفية واحدة في الأعمال، أو صيغة واحدة في الأقوال، بخلاف ما إذا لم تتعدد الرواية، فستكون محصورة بذلك.

قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن قسَّم الاختلاف إلى نوعين: اختلاف تنوع واختلاف تضاد:

“واختلاف التنوع على وجوه: منه ما يكون كلُّ واحد من القولين أو الفعلين حقًّا مشروعًا كما في القراءات، وصفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل” (ابن تيمية، 1998، ص33).

ومن الأمثلة على ذلك: تعدد روايات حديث صلاة الخوف.

أخرجها ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وجابر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبي بكرة، وسهل بن أبي حثمة، وبين هذه الأحاديث اختلاف في كيفية الصلاة من عدة وجوه، ثم قال ابن حبان بعدها: “هذه الأخبار ليس بينها تضاد ولا تهاتر، ولكن المصطفى r صلى صلاة الخوف مرارًا في أحوال مختلفة بأنواع متباينة، على حسب ما ذكرناه، أراد r به تعليم أمته صلاة الخوف أنه مباح لهم أن يُصلوا أي نوع من الأنواع التسعة التي صلاها رسول الله r في الخوف على حسب الحاجة إليها، والمرء مباح له أن يصلي ما شاء عند الخوف من هذه الأنواع التي ذكرناها؛ إذ هي من اختلاف المباح من غير أن يكون بينها تضادٌّ أو تهاتر” (ابن حبان 1993، 1/145).

وقال الإمام أحمد: “كل حديث يُروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز” (ابن القيم، 1987، 1/512).

ثانيًا: بيان الصور التطبيقية للحكم الشرعي.

تُعد أفعال النبي r الوجه العملي التطبيقي لكثير من الأحكام الشرعية، ولا يخفى أن بعض الأحكام لها صور متعددة في التطبيق بيّنَها تعدد الروايات، وهذا من حكم تعدد الرواية .

ومثال ذلك: حديث سهو النبي r في الصلاة، فقد رواه عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن مالك بن بُحينة، وعمران بن حصين، ومعاوية ابن حُديج، وأبو هريرة رضي الله عنهم (البكري، 2013، ص 51).

فحديث ابن مسعود: صَلَّى النَّبِيُّ r الظُّهْرَ خَمْسًا فَقَالُوا أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، رقم (396) 1/157، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572) 1/401).

وحديث ابن بُحينة: أن النبي عليه السلام صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهْوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ (رواه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير التشهد الأول واجباً، رقم (795) 1/285).

وحديث عمران بن حصين أن رسول الله r صَلَّى الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ، وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَصَدَقَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، «فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ» (رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (574) 1/404).

وحديث معاوية بن حُديج أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r صَلَّى يَوْمًا فَسَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَتْ مِنَ الصَّلاَةِ رَكْعَةٌ فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: نَسِيتَ مِنَ الصَّلاَةِ رَكْعَةً، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَقَامَ الصَّلاَةَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ رَكْعَةً، فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ النَّاسَ. فَقَالُوا لِي: أَتَعْرِفُ الرَّجُلَ؟ قُلْتُ: لاَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهُ فَمَرَّ بِي، فَقُلْتُ:هَذَا هُوَ. فَقَالُوا:هَذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب إذا صلى خمسًا، رقم (1023) 1/269 والنسائي في سننه، كتاب الأذان، باب الإقامة لمن نسي ركعة من الصلاة، رقم (664) 2/18 وإسناده صحيح)، وفي رواية: أنَّ ذلك في صلاة المغرب، وأنه سلَّم فيها من ركعتين (رواها ابن حبان في صحيحه، رقم (2674)).

فحديث ابن مسعود فيه أن السهو بزيادة ركعة، وحديث ابن بُحينة السهو فيه بنسيان التشهد الأوسط، وأما حديث عمران ومعاوية بن حديج فالسهو فيه بإنقاص ركعة أو ركعتين، ويظهر من خلال هذه الروايات أن سجود السهو شُرع ليجبر خللاً واقعًا في الصلاة، وهذا الخلل متعدد متنوع.

المبحث الرابع: أنواع تعدد الروايات:

لتعدد الروايات عدة أنواع وهي:

أولاً: تعدد مع اختلاف المخرج وتعدد الواقعة:

يتحقق تعدد الحادثة إذا اختلف مخرج الروايات، ومخرج الرواية هو صحابيُّها، لأن اتحاد المخرج يدل على أن جميع الروايات لحديث واحد؛ لأن الأصل أنَّ الصحابي سمع الحديث من النبي r مرَّة إلا أن يثبت التعدد.

أما إذا اختلف مخرج الحديث فرواه صحابيان أو أكثر فهنا قد يكون تعدد الحادثة متحققًا، وقد يكون محتملاً.

قال ابن دقيق العيد: “يُعرف كون الحديث واحدًا باتحاد سنده ومخرجه وتقارب ألفاظه” (ابن دقيق العيد، 1953، 2/231).

وقال العلائي: “إذا اختلفت مخارج الحديث وتباعدت ألفاظه فالذي ينبغي أن يُجعلا حديثين مستقلين…، وأما إذا اتحد مخرج الحديث وتقاربت ألفاظه فالغالب حينئذ على الظن أنه حديث واحد وقع الاختلاف فيه على بعض الرواة” (العلائي، 1986، ص112).           

ومثال ذلك: حديث أنس جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ r، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ، قَالَ: «هَلْ حَضَرْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «قَدْ غُفِرَ لَكَ» (رواه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر، باب إذا أقرَّ بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه، رقم (6437) 6/2501، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب إن الحسنات يذهبن السيئات، رقم (2764) 4/2117).

وفي رواية ابن مسعود تصريح بأن الرجل لم يصب الحدَّ، بلفظ: أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ r فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. قَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذِهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي» (رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله “وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل…”، رقم (4410) 4/1727، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب إن الحسنات يذهبن السيئات، رقم (2763) 4/2115).

قال الحافظ ابن حجر: “من وحد هذه القصة والتي في حديث ابن مسعود ليس بجيد لاختلاف القصتين، وعلى التعدد جرى البخاري في هاتين الترجمتين، فحمل الأولى على من أقر بذنب دون الحد للتصريح بقوله: (غير أني لم أجامعها)، وحمل الثانية على ما يوجب الحد لأنه ظاهر قول الرجل، وأما من وحد بين القصتين فقال: لعله ظن ما ليس بحد حدًّا، أو استعظم الذي فعله فظن أنه يجب فيه الحد” (ابنحجر، 1959، 12/134).

والأمثلة على ذلك كثيرة، قال الصنعاني: “وذلك كاختلاف روايات الأذان… وكذلك ألفاظ التوحيد، وفي ألفاظ التشهد… فمثل هذا وغير ذلك محمول على تعداد التعليم منه r” ( الصنعاني، 2007، ص26ـ 28).

ثانيًا: تعدد مع اتحاد المخرج والواقعة:

إذا اتحد مخرج الروايات فالأصل كما ذكرنا آنفًا أن تكون جميعها لحديث واحد، إلا إذا ثبت خلافه، قال الحافظ ابن حجر: “الأصل عدم التعدد عند اتحاد مخرج الحديث” (ابن حجر، 1959، 1/572).

ومثال ذلك: حديث “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات” (رواه البخاري في صحيحه، المقدمة، باب كيف كان بدء الوحي، رقم (1) 1/3، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله r إنما الأعمال بالنية، رقم (1907) 3/1515).

 فقد اختلفت رواياته مع أن مخرجه واحد؛ فلم يرو إلا عن عمر رضي الله عنه، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتُهر عن يحيى (ابن الملقن، 2004، 1/ 658).

قال الخطابي: “قد يتكلم r في بعض النوازل وبحضرته أخلاط من الناس قبائلهم شتى، ولغاتهم مختلفة، ومراتبهم في الحفظ والإتقان غير متساوية، وليس كلهم يتيسر لضبط اللفظ وحصره… وإنما يُستدرك المراد بالفحوى ويتعلق منه بالمعنى، ثم يؤديه بلغته ويُعبِّر عنه بلسان قبيلته، فيجتمع في الحديث الواحد إذا انشعبت طرقه عدة ألفاظ مختلفة موجبها شيء واحد” (الخطابي، 1982، 1/68ـ69).

ثالثًا: تعدد ناتج من اتحاد المخرج وتعدد الواقعة:

كما ذكرنا آنفًا أن اتحاد مخرج الروايات يدل غالبًا أنها لحديث واحد إلا إذا ثبت خلافه، فالكلام هنا في هذا الاستثناء، وهو نادر جدًّا ومثاله: حديث حماد بن سلمة عن ثابت البُناني عن أنس: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، الرَّجلُ يحبُّ القومَ ولا يَبْلُغْ عَمَلَهم؟ فقال رسول الله r: “المَرْءُ معَ منْ أحبَّ” (رواه أحمد في مسنده، رقم (12646) 3/159، وأبو يعلى في مسنده، رقم (3278) 6/35 وإسناده صحيح).

وروى حماد بن سلمة أيضًا عن ثابت عن أنس: أنَّ رجلاً سأل رسول الله r عن قيام السَّاعة فقال: “وما أعدَدْتَّ لها، فإنَّها قائمة؟” قال: ما أعدَدْتُ لها من كبير عملٍ غيرَ أني أحبُّ الله ورسوله، قال: “فأنتَ معَ منْ أحبَبْتَ” (رواه أحمد في مسنده، رقم (12738) 3/168، وأبو يعلى في مسنده (3277) 6/34، وابن حبان (565) 2/342 وإسناده صحيح).

قال الحافظ ابن حجر: “سؤال الأول إنما وقع عن العمل، وسؤال الثاني إنما وقع عن الساعة فدل على التعدد” (ابن حجر، 1959، 7/49).

المبحث الخامس: آثار جمع الروايات المتعددة:

الجمع بين الروايات المتعددة له آثار وفوائد عديدة تعود على فهم المعاني، أو معرفة العلة، أو تقييد للمطلق، أو بيان للمجمل، ويمكن تحديد آثار جمع الروايات بما يأتي:

أولاً: تفسير بعض الألفاظ ومعرفة المراد منها:

وهذا يحصل في الأحاديث التي تُروى مختصرة في بعض الروايات، وقد يؤدي ذلك إلى الوهم في فهم الحديث، وتروى مفسرة في روايات أخرى؛ فإذا جمعت اتضح المراد بالرواية المختصرة.

ومن الأمثلة على ذلك:

عن أم عطية الأنصارية قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ r حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي». فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» تعني إزاره (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه، رقم (1195)، 1/422، ومسلم في الجنائز، باب غسل الميت، رقم (939)، 2/646).

ففي هذه الرواية لم يبين كيفية الغسل، وفي قوله: “أو شيئًا من كافور” هل هي شك من الراوي أم لا؟

ولكن عند النظر في الروايات الأخرى نجد في رواية عند البخاري: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا»، وَكَانَ فِيهِ أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَمَشَطْنَاهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ (في الجنائز، باب ما يستحب أن يغسل وترًا، رقم (1196)، 1/423).

ففي هذه الرواية تبين كيفية الغسل بقوله: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا».

وتبين أن (أو) في “أو شيئًا من كافور” شك من الراوي (العبيد، 2019، ص12).

ثانيًا ً: معرفة علة الحكم:

وله أمثلة كثيرة منها:

حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله r: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ» (رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب، رقم (308)1/ 249، والترمذي في سننه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب، رقم (141)، وقال: حسن صحيح 1/261، وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة، باب في الجنب إذا أراد أن يعود، رقم (587) 1/193).

وفي رواية الحاكم بين الحكمة من الوضوء فزاد “فإنَّه أنشطُ للعَود” (مستدرك الحاكم، رقم (542)، وقال: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما أخرجاه إلى قوله: “فليتوضأ” فقط، ولم يذكرا فيه “فإنه أنشط للعود”، وهذه لفظة تفرد بها شعبة عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عندهما، وقال الذهبي: لم يخرجا آخره (الحاكم، 1397هـ، 1/254).

ورواه ابن حبان في صحيحه، رقم (1211) 4/12، وابن خزيمة في صحيحه، رقم (221) 1/110 وإسناده صحيح.

ثالثًا: تقييد المطلق:

ومثاله: حديث أم ورقة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَزُورُهَا فِي بَيْتِهَا وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا (رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب إمامة النساء، رقم (592) 1/161، والحاكم، رقم (730) 1/320، ومدار الحديث عن الوليد بن جميع، قال الحاكم بعد روايته للحديث: قد احتج مسلم بالوليد بن جميع، وهذه سنة غريبة، لا أعرف في الباب حديثًا مسندًا غير هذا. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يهم، ورمي بالتشيع (ابن حجر،1406هـ، 1/582).

والحديث في طرقه كلها أنها كانت تؤم أهل دارها في بيتها، وفي رواية عند الدارقطني زيادة تفيد المقصود بأهل دارها؛ ففيها: أنَّ رسول الله r أذن لها أنْ يُؤذّن لها ويُقام وتؤمَّ نساءَها (الدارقطني، 1966، 1/279)، وعلى ذلك فإن إطلاق عبارة (أهل دارها) مقيَّدة بهذه الرواية بالنساء.

رابعًا: بيان المُجمل:

كالأحاديث التي يوهم ظاهرها أمرًا مخالفًا للمقصود، كحديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِي قَالَ -وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ- فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ: «لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَّ أُدْخِلَهُ الذُّلُّ» (رواه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به، رقم (2196) 2/817). فظاهر هذا الحديث أن الإسلام يكره الزراعة والحرث، ولكن الأمر ليس على ظاهره. قال ابن حجر: “يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك، ومحله ما إذا اشتغل به فضيَّع بسببه ما أُمر بحفظه، وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه” (ابن حجر، 1959، 2/817).

ثم إنه قد وردت عدة روايات في الحث على الزراعة، وغرس الأرض وإحيائها، كحديث أنس قال: قال رسول الله r: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس، رقم (2195) 2/817 ، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، رقم (1552) 3/1188).

وقد جاءت الرواية المبينة لحديث أبي أمامة السابق، وأنه ليس على إطلاقه في حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله r يقول: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (رواه أبو داود في سننه، كتاب الإجارة، باب في النهي عن العينة، رقم (3462) 3/274، والبيهقي في سننه الكبرى، رقم (10484) 5/316). ومدار الحديث على عطاء الخرساني، قال ابن حجر: “صدوق يهم كثيرًا ويرسل ويدلس” (ابن حجر، 1406هـ، ص392).

وهذا محمول على الاشتغال بالزرع في الزمن الذي يتعين فيه الجهاد في سبيل الله تعالى، وحمل الداودي حديث أبي أمامة على من كان قريبًا من العدو؛ فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية، فيتأسد عليه العدو (ابن حجر، 1959، 5/5).

خامسًا: تخصيص العام:

جاءت بعض الروايات مخصصة لعموم بعض الأحكام بمثل الأحاديث التي تبين مقدار زكاة الزروع، كحديث عبد الله بن عمر: “عَنِ النَّبِي r قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا (عثريًّا: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي (ابن حجر، 1959، 3/349)) الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، رقم (1412) 2/540).

قال الحافظ ابن حجر: “حديث ابن عمر بعمومه ظاهر في عدم اشتراط النصاب، وفي إيجاب الزكاة في كل ما يسقى بمؤنة وبغير مؤنة، ولكنه عند الجمهور مختص بالمعنى الذي سيق لأجله، وهو التمييز بين ما يجب فيه العشر أو نصف العشر” (ابن حجر، 1959، 3/349).

فحديث ابن عمر عام في كل ما ليس فيه مؤنة في السقي، فإن مقدار زكاته العشر من غير تحديد لنصاب معين، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري فيه تخصيص لنصاب معين وهو خمسة أوسق فما فوق، ولفظه “أنَّ النَّبِي r قَالَ: “لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ” (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، رقم (1413) 2/540، ومسلم في كتاب الزكاة، رقم (979) 2/673)، والمقصود بالوسق : مِكْيَلَة معلومة، وقـيل: هو حمل بعير، وهو ستُّون صاعًا بصاع النبي r (ابن منظور، 1993، 10/378).

 قال البخاري عقبه: “هذا تفسير الأول إذا قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ويؤخذ أبدًا في العلم بما زاد أهل الثبت أو بينوا” (البخاري، 1987، 2/540).

وقال الحافظ ابن حجر: “الخاص يقضي على العام؛ لأن (فيما سقت) عام يشمل النصاب ودونه، و(ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) خاص بقدر النصاب” (ابن حجر، 1959، 3/349).

وقال ابن عبد البر: “واعتبر مالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي والليث خمسة أوسق، وقالوا: لا زكاة فيما دونها، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن المبارك، وجمهور أهل الرأي والحديث” (ابن عبد البر، 1967، 24/167).

هذا ما مكنني الله من جمعه ممّا يتعلق بتعدد روايات الحديث الشريف وأثره على المعاني، سائلاً المولى العلي القدير أن أكون قد وفقت فيه.

الخاتمة

أحمد الله على إتمام هذا البحث على هذا الوجه، والذي توصلت فيه إلى النتائج الآتية:

1ـ يُعدُّ جمع الروايات الحديثية الطريق الأمثل لفهم الحديث النبوي.

2ـ لتعدد الروايات أسباب عديدة تدفع شبهة وجود التناقض في سنة النبي r منها: تكرار القول في الواقعة الواحدة، واختلاف حال المخاطبين، ورواية الحديث بالمعنى، واختلاف سماع الصحابة للحديث. 

3ـ تعدد الروايات له حِكم عظيمة منها التوسعة على الأمة، وتعدد الصور التطبيقية لبعض العبادات، والتأكيد على فضل النبي r.

4ـ التَّوسع بالقول بتعدد الرواية لا مسوِّغ له مع إغفال شرط الصِّحة.

5ـ لتعدد الروايات أنواع تعتمد على اتحاد أو اختلاف المخرج مع اتحاد أو اختلاف الواقعة.

6ـ هناك آثار عديدة ناتجة من جمع الروايات تنعكس على تفسير الألفاظ، ومعرفة العلة، وتقييد المطلق، وتخصيص العام، وبيان المجمل والمبهم، وغيرها.

التوصيات:

يوصي الباحث بدراسة تعنى بأثر تعدد الرواية على فقه الحديث، وبدراسة تعنى بأثر تعدد الرواية على نسخ الحديث الشريف، وبدراسة تعنى بعلاقة تعدد الرواية بقاعدة (المثبت مقدم على النافي)، كما يوصي الباحث طلبة العلم بعدم إطلاق دعوى التعدد بلا دليل وذلك بإغفال تعليل الروايات، وترك التدقيق في ألفاظ الرواة من حيث روايتهم بالمعنى تارة، واختصار الحديث تارة أخرى.

هذا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

للاطلاع على المصادر والمراجع وقراءة البحث كاملاً اضغط هنا