ملخص موسع:
بعد الطفرة التقنية الحديثة التي شملت كثيرًا من العلوم نالت الفتوى حظًا وافرًا من الخدمة الرقمية، لشدة حاجة الناس لها خاصة مع تجدد الوقائع والنوازل، فلجأت دور الإفتاء وكثير من علماء الأمة لخدمة الفتوى خدمة تقنية كبيرة، ولما تحمله المواقع التقنية الرقمية الخاصة بالإفتاء من تأثير في خدمة الدين الإسلامي، ولما لها من خدمة كبيرة على المسلمين وطالبي الإجابة على استفساراتهم ومعرفة الحكم الشرعي الصحيح جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على عدة أمور أولها: التعريف بالفتوى والرقمنة، ومن ثم التوصل لتعريف رقمنة الفتوى بشكل عام وهو: “ممارسة نشر الفتوى وطرح المعلومات المتعلّقة بها من خلال الأجهزة والمواقع الإلكترونية والبرامج والتطبيقات والتي أصبحت مُتاحة بوفرة”.
ثم تعرض الدراسة منهجية التعامل مع الفتوى وذلك بإبراز أهم فوائدها ومصالحها والتي منها:
1ـ بيان الحكم الشرعي بشكل عام والمستجد بسبب النوازل بشكل خاص.
2ـ مجال كبير لنشر السؤال والجواب المكتوب بحكم أنه سيكون مشاعًا لجميع من يريد الثقافة الفقهية الشرعية.
3ـ تحقق انتفاعًا كبيرًا للمجموعات المهمّشة في السابق، بمن فيهم النساء، أو من يعيشون في أماكن نائية.
4ـ فرصة للتعرف على الحكم الشرعي في جميع المذاهب الإسلامية، خاصة لمن اعتاد على سماع فتوى لمذهب معين بحكم فيجد تنوعًا في المذاهب والآراء لم يكن مطلعًا عليه سابقًا.
5ـ تعريف الناس بعلماء الأمة المنتشرين حول بقاع العالم.
6ـ تتيح للمفتي العديد من الإمكانيات الجديدة، فهي فرصة للوصول إلى أعمق طبقات النسيج الاجتماعي، وتقويم سلوكيات المسلمين بمختلف توجهاتهم.
ومع هذه المميزات إلا أن الفتوى الرقمية تحوي بعضًا من النتائج السلبية التي لم تكن في ظل الفتوى التقليدية السابقة، ومن أهم هذه الآثار السلبية:
1ـ كثرة المتصدرين للفتوى ممن لا يملكون المقدرة العلمية على التمييز بين الآراء الراجحة والمرجوحة والشاذة، مما أدى لنشر بعض الآراء المرجوحة أو التي اختلفت آراء العلماء فيها بين السابق والوقت الحالي.
3ـ التضارب أحيانًا بين الفتاوى يحدث تحيرًا لدى المستفتي وتشككًا تجعله حائرًا بين الفتاوى لا يستطيع أن يميز الأصوب والأرجح منها.
4ـ يتعرض المفتي أحيانًا لطلبات من المستفتي غير متوقعة قد لا يكون المفتي مستعدًّا لها أو مدربًا على مناقشتها مما يضطر المفتي لإحالتهم إلى شخص آخر متخصص.
5ـ تشكل المسافة التي تفصل المستفتي عن المفتي على الإنترنت عائقًا إضافيًا أمام قدرة الأخير على استبيان السياق العام للسؤال، فعدم معرفة المفتي للظروف المحيطة بالمستفتي كالأعراف والعادات المنتشرة في مجتمعه، أو المذهب المنتشر في بلد المستفتي كلها أسباب قد تؤدي إلى خلل في الفتوى.
6ـ يضطر المفتي أحيانًا لتفصيل الإجابة بشكل موسع باذلًا جهدًا مضاعفًا بسبب عدم تخصيص السائل لأمر ما أو تقييده، مع اختلاف الحكم في كل حالة.
7ـ احتيال بعض المستفتين بغية الحصول على الفتوى التي يريدها.
8ـ بعض المواقع الإلكترونية لا تصرح باسم المفتي فيكون مجهول الحال، وهذا مما يقدح في فتياه.
هذا وإن هناك مواصفات وضوابط لابد من تحققها في المفتي الذي يعرض نفسه للإفتاء، فليس كل من ملك شيئًا من العلم أصبح مفتيًا، فقد كان سلف هذه الأمة وكبار علمائها من أشد الناس مهابة من الفتيا وتحرزًا منها لما للإفتاء من خطر عظيم، ومن أبرزها ما يأتي:
1ـ العلم بمواقع الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام ليتمكن من الرجوع إليها عند الحاجة، والأحاديث النبوية المتعلقة بالأحكام وأن يعرف الصحيح والسقيم منها، وأن يكون متمكنًا من المسائل المجمع عليها حتى لا يُفتى بخلاف ما أُجمع عليه، وأن يعرف القياس وشرائطه المعتبرة فيه، وأنْ يكون عارفًا باللغة العربية من نحو وصرف.
2ـ المفتي يجعل الناس على الوسط بين الشدة والرخصة، وله أن يأخذ بالأشد في خاصة نفسه.
4ـ ألا يغفل عن “التوجيه التربوي” وأن يجعل فتواه فرصة للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
5ـ مراعاة حال المخاطبين والذين يقرؤون أو يستمعون إليها الفتوى من حيث صياغة الفتوى ولغتها.
6ـ مراعاة مقاصد الشريعة خاصة فيما يتعلق بالمسائل السياسية والأوضاع الراهنة، كي لا يحدث فتنة في المجتمع تسبب عداوة أو مشكلة تؤدي إلى ضرر ومفسدة كبرى.
7ـ أن يغلب على ظن المفتي أن المستفتي طالب للحق لا مجادل فيه، ولا يريد من المفتي تبرير باطله.
8ـ ضرورة معرفة المفتي بعرف مجتمع المستفتي وعادته لما لكثير من الأحكام من تعلق بالعُرف.
9ـ على المفتي التَّبصر بحال المستفتي فقد يرى المفتي أن يُفتي لمستفت في موضوع بالتشديد، ويفتي لآخر في نفس الموضوع بالتخفيف؛ لاعتبارات يراها هو تتعلق باختلاف حال كل منهما.
وقد انتشرت المواقع على شبكة الإنترنت والتطبيقات الهاتفية التي تخدم المستفتي انتشارًا واسعًا في العالم، ومن تلك المواقع التي تكون لجنة الإفتاء فيها مجموعة من العلماء: موقع إسلام ويب، موقع طريق الإسلام، موقع دار الإفتاء المصرية، موقع دار الإفتاء الأردنية، موقع المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، موقع رابطة العلماء السوريين، موقع رئاسة الشؤون الدينية العليا التركية، موقع الفتوى.
وهناك مواقع خاصة ببعض العلماء.
مدخل:
أصبحت التقنية الرقمية ركيزة محورية في الإرشادات والتوجيهات الأخلاقية الإسلامية، وأصبح المسلمون الذين يقطنون أماكن بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية كالمساجد والمدارس ومراكز الإفتاء قادرين على طلب الفتوى بكل سهولة ومن جميع أنحاء العالم، وقد انتشر هذا النوع من الفتوى حتى أصبحت مواقع الإفتاء الإلكترونية تتعلق بعلماء مسلمين ومؤسسات دينية معترف بها وجهات تابعة للدولة، وقد ساهمت رقمنة الفتوى في خلق ظروف ومعايير جديدة في صالح المجتمعات الإسلامية في جميع بقاع العالم، وبالرغم من تعدد الإيجابيات لهذه التقنية الحديثة إلا أن ثمة تحديات قائمة تتطلب الاجتهاد الدائم لمواجهتها.
أهمية البحث:
بعد ظهور التكنولوجيا الرقمية الدينية أصبحت البرامج والمواقع التقنية بما تحويه من مميزات هائلة ثروة علمية يصعب الاستغناء عنها، بل أصبحت جزءًا أساسيًا لكل باحث وطالب علم وحتى من لا تخصص له في العلوم الشرعية، فجاءت هذه الدراسة للتعرف على أهم المواقع التقنية الرقمية التي تخدم الإفتاء والإجابة على استفسارات الناس الشرعية، وتبصرهم بالإيجابيات الموجودة فيها، وتنبههم على أهم السلبيات، وترشد إلى أهم مواقع الإفتاء الرقمية.
مشكلة الدراسة:
لما تحمله المواقع التقنية الرقمية الخاصة بالإفتاء من تأثير في خدمة الدين الإسلامي، ولما لها من خدمة كبيرة على المسلمين وطالبي الإجابة على استفساراتهم ومعرفة الحكم الشرعي الصحيح جاءت هذه الدراسة للإجابة عن الأسئلة الآتية: هل كان للتقنية أثر في خدمة الفتوى؟ ما أبرز المواقع الرقمية الخادمة للفتوى؟ ما إيجابيات رقمنة الفتوى؟ وما سلبياتها؟
الدراسات السابقة:
بعد البحث عن دراسات مشابهة لهذه الدراسة لم أجد دراسة مستقلة تتحدث عن رقمنة الفتوى وكل ما وجدته من دراسات أو مقالات مشابهة ما يأتي:
1ـ دراسة بعنوان: (ضوابط الفتوى عبر الفضائيات)، للدكتور عبد الناصر أبو البصل، مقدمة للمؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها، الذي عقده المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، عام 2009م، وهي دراسة تخص مجال الفتوى عبر القنوات التلفزيونية الفضائية، ولم يتطرق صاحبها للفتوى الرقمية، إلا أن فيها تعرض في جانب مشابه لدراستي وهو عدم اللقاء المباشر بين المفتي والمستفتي.
2ـ مقالة بعنوان: (الفتاوى الرقمية والتحول المستمر في المرجعية الدينية)، للدكتور ألكسندر كايرو، وهو مقال صغير منشور على موقع الجزيرة نت، ذكر فيه صاحبه موجز مبسط لإيجابيات الفتوى الرقمية وسلبياتها دون التطرق لأهم مواقع الإفتاء الرقمية، دون التفصيل في الإيجابيات والسلبيات.
منهج الدراسة:
استخدمت في هذه الدراسة المناهج الآتية:
1ـ المنهج الاستقرائي: واستخدمته في تتبع مواقع الفتوى الرقمية الأكثر انتشارًا بين الناس.
2ـ المنهج الوصفي: واستخدمته في وصف مواقع الفتوى الرقمية وبيان خصائصها.
3- المنهج التحليلي: واستخدمته في بيان أهم مميزات وإيجابيات رقمنة الفتوى، مع إبراز أهم الإشكالات والسلبيات فيها.
خطة الدراسة:
قسمت هذه الدراسة بعد هذه المقدمة إلى أربعة مباحث وهي: تعريف الفتوى والرقمنة، ومنهجية التعامل مع رقمنة الفتوى، وضوابط إصدار الفتاوى الرقمية، وأهم المواقع الرقمية للفتوى.
المبحث الأول: تعريف الفتوى والرقمنة.
أولا: تعريف الفتوى:
الفتوى لغة:
قال ابن منظور: “الفُتْيَا والفُتْوَى والفَتْوَى: ما أفتى به الفقيه، وأفتاه في الأمر: أبانَه له، وأَفْتَى الرجل في المسأَلة واسْتَفْتَيْته فيها فأَفْتَاني إفْتَاء، وفُتًى وفَتْوَى: اسْمَانِ يُوضَعَانِ مَوْضِعَ الإِفْتاء، ويُقالُ: أَفْتَيْت فُلَانًا رُؤْيَا رَآهَا إِذا عَبَّرْتَهَا لَهُ، وأَفْتَيْتُه فِي مسأَلته إِذا أَجبته عَنْهَا”[1].
وقال الفيومي: الفتوى بالواو بفتح الفاء، وبالياء بضمها، وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم وَاسْتَفْتَيْتُهُ سألته أن يفتى ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوي، والجمع الفَتَاوِي بكسر الواو على الأصل وقيل يجوز الفتح للتَّخفيف.
الفتوى في الاصطلاح:
لقد أورد العلماء تعريفات عدة في الفتوى منها:
عرف ابن الصلاح الفتوى بأنها: “توقيع عَن الله تبَارك وَتَعَالَى”[2].
وعرفها القرافي بأنها: “إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى”[3].
وعُرفت الفتوى بأنها : “اجتهاد في مسألة معينة تخص فرداً وجماعة للوصول إلى حكم الشرع فيها ويشمل كل من كان من أهل الاستدلال والاستنباط ومن يلحق بهم من أهل الترجيح أو التخريج[4].
وعرفت كذلك بأنها: ” الحكم الشرعي الذي أفتى به العالم، وهي اسم من أفتى العالم إذا بيَّن الحكم”[5].
أما المفتي فهو : “المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله أو هو المخبر عن الله بحكمه، أو هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعاً بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه”[6].
ثانيًا: تعريف الرقمنة:
الرقمنة لغة:
قال ابن منظور: “الرَّقْمُ والتَّرقيمُ: تَعْجيمُ الْكِتَابِ. ورَقَمَ الْكِتَابَ يَرْقُمُهُ رَقْماً: أَعجمه وبيَّنه. وَكِتَابٌ مَرْقُوم أَي قَدْ بُيِّنتْ حُرُوفُهُ بِعَلَامَاتِهَا مِنَ التَّنْقِيطِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ ( المطففين:9) ؛ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ”[7].
وقال الرازي: “الرَّقْمُ الْكِتَابَةُ، وَ رَقْمُ الثَّوْبِ كِتَابُهُ”[8].
وقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: “الرَّقْمُ كُلُّ ثَوْبٍ رُقِمَ أَيْ وُشِّيَ بِرَقْمٍ مَعْلُومٍ حَتَّى صَارَ عَلَمًا ، وَقَالَ الْفَارَابِيُّ: وَرَقَمْتُ الشَّيْءَ أَعْلَمْتُهُ بِعَلَامَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا”[9].
اصطلاحًا: “الرَّقْم في الأصل الكتابة والنقشُ ثم قيل للنقش الذي يرقم التاجر على الثياب علامة على أن ثمنها كذا”[10].
وقال القاضي عبد النبي النكري: “الرقم: بتسكين القاف الْكِتَابَة وَبِفَتْحِهَا مَا وَضعه حكماء الْهِنْد للأعداد اختصارًا فِي الْأَعْمَال العددية وَجمعه الأرقام”[11].
والمقصود بالرَّقمَنة البرمجية: “العمل على تحويل جميع المعلومات إلى شكل رقمي عبر إسقاط الحواجز الفاصلة بين الأنساق الرمزية المختلفة من نصوص ، وأصوات، وأشكال، وصور ثابتة ومتحركة، فأصبح التعبير عن الحروف الأبجدية يتم بشفرات رقمية في حين تتحوّل الأشكال والصور بعد مسحها الكترونياً إلى مجموعة نقاط متراصة ومتلاحقة يتم تمثيل كل منها رقمياً، بما يتوافق مع نظام الأعداد الثنائي الذي هو أساس عمل الكمبيوتر الذي يستعمل الأرقام كقيم مستقلة”[12].
من خلال التعريفات السابقة للرقمنة، والرقمنة البرمجية يمكن تعريف رقمنة الفتوى بأنها:
ممارسة نشر الفتوى وطرح المعلومات المتعلّقة بها من خلال الأجهزة والمواقع الإلكترونية والبرامج والتطبيقات والتي أصبحت مُتاحة بوفرة.
المبحث الثاني: منهجية التعامل مع رقمنة الفتوى.
تعد التقنية الرقمية عملية اتصالية تتبلور في ممارسة نشر الدين والدّعوة من خلال الشاشات الإلكترونية ما بين مُرسل ومُستقبل لإحداث تأثير مُتوقع، وعادة ما تكون عبر مقاطع سمعيّة أو بصريّة أو مقالات مكتوبة أو منشورات قصيرة أو اقتباسات مجتزئة، أو برامج خدمية، لذا نجد أن كثيرًا من علماء الأمة توجه لخدمة الفتوى خدمة تقنية ، وبلغ الاهتمام التقني بها مبلغًا كبيراً، خاصة مع تقدم الوسائل وتجدد التقنيات، وقد انتشر هذا النوع من الفتوى حتى أصبحت مواقع الإفتاء الإلكترونية تتعلق بعلماء مسلمين ومؤسسات دينية معترف بها وجهات تابعة للدولة، وبينما ساهم ذلك في الحد من الانقسامات الدينية والفُرّقة التي توقظها تقنيات الإعلام الجديدة، فقد ساهمت أيضًا في خلق ظروف ومعايير جديدة في صالح أداء المرجعيات الدينية.
وقد استشعرت هيئات الإفتاء في العالم أهمية التقنية الرقمية فوضعت لنفسها هدفًا استراتيجيًّا يتعلق بتحسين إدارة المؤسسات الإفتائية بما يشمل تطوير ودعم التحوُّل الرقمي وتقنياته في الفتوى، فأصبح المرء بنقرة زر يستطيع الحصول على الفتوى التي يريدها والجواب على سؤاله المستجد.
إلا أن تقنية الرقمية المعاصرة للفتوى رغم ما تحمله من إيجابيات ومميزات متعددة إلا أن فيها بعض السلبيات لابد من التنويه لها، ولنعرض بداية أهم إيجابيات ومميزان الفتوى الرقمية والمتمثلة بالمواقع الإلكترونية المتعددة.
أولا: إيجابيات رقمنة الفتوى:
حققت الفتوى الرقمية بعد الطفرة التكنلوجية فوائد ومصالح متعددة ومن ذلك:
1ـ بيان الحكم الشرعي بشكل عام والمستجد بسبب النوازل بشكل خاص، وهذه في الأصل هي المهمة الرئيسة للفتوى، فكل من يسأل عن نازلة من النوازل يقصد الحصول على الحكم الشرعي خشية الوقوع في الحرام.
2ـ مجال كبير لنشر الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن السؤال والجواب المكتوب في المواقع الإلكترونية لا يقرؤه المستفتي فقط بل هو مشاع لجميع من يريد الثقافة الفقهية الشرعية في أي وقت يريده القارئ أو المستمع أيضًا بحكم أن بعض المواقع تتميز بإمكانية قراءة الفتوى أو الاستماع إليها.
3ـ ومن أهم إيجابيات رقمنة الفتوى أنَّ أكثر المنتفعين بها المجموعات المُهمّشة في السابق، بمن فيهم النساء، نظرًا لمحدودية قدرتهن على التواصل مع المرجعيات الدينية من الرجال، أو من يعيشون في أماكن نائية بعيدة عن موطن تلك المؤسسات، فأصبحت الزوجة التي تجد نفسها في مواجهة صعوبات أسرية، أو العامل الذي يعاني مع رئيسه المتسلِّط، أو المواطن الذي يعاني من ظلم سلطان الدولة عليه، هم أكثر من يلجؤون للتواصل مع مواقع الفتوى الرقمية.
“فالفتوى تصل إلى المرأة في بيتها والمقيم في الشرق أو الغرب في مكان إقامته؛ دون الانتقال إلى البلد أو الموقع الذي يكون فيه المفتي، فقد يثق إنسان بعالم ما ولا يستطيع الوصول إليه فيستمع للحلقة الفضائية ويتصل به مباشرة ويستفتيه”[13].
4ـ فرصة للتعرف على الحكم الشرعي في جميع المذاهب الإسلامية، فالفتوى الرقمية يمكنها عرض الحكم مع أدلته على المذاهب الأربعة بل حتى على بقية المذاهب الأخرى كالزيدية والظاهرية وغيرها، خاصة لمن اعتاد على سماع فتوى لمذهب معين بحكم أن بلده يتمذهب بذلك المذهب فعند الرجوع للفتاوى الإلكترونية يجد تنوعًا في المذاهب والآراء لم يكن مطلعًا عليه سابقًا مما يزيده تبصرًا ومعرفة بآراء المذاهب الأخرى.
5ـ تعريف الناس بعلماء الأمة المنتشرين حول بقاع العالم، فكل من يكتب سؤاله على أحد المواقع الإلكترونية المتخصصة بالفتوى يمكنه الاطلاع على اسم العالم الذي أجابه مما يزيده معرفة بالعلماء خاصة إذا كانوا خارج بلده، فكثير من العوام لا يعرف سوى علماء بلده وفقط ويجهل أن هناك علماء متميزون بعلمهم يقنطون في بلاد متعددة، وقد اشتهر كثير من العلماء بسبب التقنية الحديثة عبر فتاويهم المكتوبة أو المسموعة الموجودة في المواقع الإلكترونية أو القنوات الفضائية.
6ـ من أهم الفرص التي يجنيها المفتون عبر التقنية الرقمية: أن الإنترنت يوفر لهم العديد من الإمكانيات الجديدة، حيث يتيح لهم فرصة الوصول إلى أعمق طبقات النسيج الاجتماعي، وتقويم سلوكيات المسلمين بمختلف توجهاتهم، وتوعية شعوب بأكملها، والحفاظ على تمسكهم بالقيم الدينية في ظل التغيرات الاجتماعية، والانتقال نحو الحداثة، والمشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الإسلامية، كما يتيح لهم من خلال محركات البحث والتنسيق القدرة على توحيد الفتاوى والتقريب بين مختلف الآراء[14].
ثانيًا: سلبيات رقمنة الفتوى.
إن المتتبع لمسيرة الفتوى الرقمية يجد أنها تحوي بعضًا من النتائج السلبية التي لم تكن في ظل الفتوى التقليدية السابقة، ومن أهم هذه الآثار السلبية:
1ـ كثرة المتصدرين للفتوى ممن لا يملكون المقدرة العلمية على التمييز بين الآراء الراجحة والمرجوحة والشاذة، مما أدى لنشر بعض الآراء المرجوحة أو التي اختلفت آراء العلماء فيها بين السابق والوقت الحالي، وقد يجهل بعضهم أن المستفتي ينتمي لدولة ذات مذهب معروف كالمذهب الحنفي في تركيا، والمذهب الشافعي في ماليزيا، والمذهب المالكي في تونس، والمذهب الحنبلي في المملكة العربية السعودية، فيقوم المفتي بفتواه التي توافق مذهبه وليست التي توافق مذهب المستفتي مما يضعف الوحدة المذهبية السائدة لدى المستفتي.
ومن هنا ندرك لماذا كان القضاة في التاريخ الإسلامي في العصر العثماني والمملوكي والعباسي أيضًا يولون قُضاة أو نوَّابا للقضاة من مذهب المجتمع الذي ينتشر به ذلك المذهب[15].
2ـ التضارب أحيانًا بين الفتاوى يحدث تحيرًا لدى المستفتي وتشككًا تجعله حائرًا بين الفتاوى لا يستطيع أن يميز الأصوب والأرجح منها وهذا الأمر ناتج عن الاختلاف المذهبي فالمذهب المختلف يؤدي إلى فتوى مختلفة، خاصة أن كثيرًا ممن يطلبون الفتوى لا يعرفون مذهب المفتي، وسينظر العامي بحسب ما يرتاح إليه، دون منهج أو استدلال، فيرجح ويختار الفتوى التي تناسبه.
3ـ يتعرض المفتي أحيانًا لطلبات من المستفتي غير متوقعة فقد لا تنحصر أحيانًا الطلبات على طلب الحكم الشرعي بل تتعداه إلى طلبات قد لا يكون المفتي مستعدًّا لها أو مُدَربًا على مناقشتها، فقد يطلب منه استشارة أو نصيحة أو وساطة أو دفاع عن بعض العادات والتقاليد، أو الرقية وتفسير الأحلام مما يضطر المفتي لإحالتهم إلى شخص آخر متخصص.
4ـ تشكل المسافة التي تفصل المستفتي عن المفتي على الإنترنت عائقًا إضافيًا أمام قدرة الأخير على استبيان السياق العام للسؤال، حيث يكاد يكون من المستحيل أن يستوعب المفتي الجوانب النفسية للسائل لاستبيان دوافعه وتطلعاته عند التواصل عبر الإنترنت[16].
لذا فإنَّ عدم معرفة المفتي للظروف المحيطة بالمستفتي كالأعراف والعادات المنتشرة في مجتمعه، أو اختلاف معاني المصطلحات من بلد لآخر، أو المذهب المنتشر في بلد المستفتي كلها أسباب قد تؤدي إلى خلل في الفتوى.
لذا نجد أن كثيرًا من المفتين عبر المواقع الالكترونية يعتذر عن الإفتاء في مسائل الطلاق مثلًا لعدم اتضاح الصورة بشكل كامل، فهناك عدة أسئلة يرغب المفتي بتوجيهها للسائل وبدون معرفة جوابها لا يمكنه الفتوى.
5ـ يقوم بعض المستفتين بكتابة سؤالهم بشكل عام من غير تخصيص أو تقييد، ومن المعلوم أن الحكم الشرعي يختلف في كثير من الأحيان من حالة إلى حالة حسب المقدار أو الزمان أو غيرهما من الظروف المحيطة بالحالة، مما يجعل المفتي مضطرًا لتفصيل الإجابة بشكل مفصل لجميع الحالات، مع ذكر الأدلة وأقوال العلماء بشكل موسع باذلًا جهدًا مضاعفًا بغية الوصول لمراد السائل.
6ـ يقوم أحيانًا بعض المستفتين ببعض الحيل بغية الحصول على الفتوى التي يريدها، أو بغية إحراج المفتي وهذا الأمر قد يصعب على المفتي معرفته بحكم التباعد الجسدي بين الإثنين وعد م قدرة المفتي على محاورة المستفتي.
7ـ بعض المواقع الإلكترونية لا تصرح باسم المفتي فيكون مجهول الحال، وهذا مما يقدح في فتياه، قال الغزالي: “إن المفتي المجهول الذي لا يُدرى أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا، لا يجوز للعامي قبول قوله، وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا، بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل”[17].
المبحث الثالث: ضوابط إصدار الفتاوى الرقمية:
هناك مواصفات وضوابط لابد من تحققها في المفتي الذي يعرض نفسه للإفتاء، فليس كل من ملك شيئًا من العلم أصبح مفتيًا، فقد كان سلف هذه الأمة وكبار علمائها من أشد الناس مهابة من الفتيا وتحرزًا منها لما للإفتاء من خطر عظيم، وموقع كبير فالمفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ لذا فقد هاب الإفتاء كثير من العلماء ورعًا وخشيةً من الوقوع في الخطأ، فقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: “أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث ، ولا يُسأل عن فتيا إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا”[18].
وسُئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة فقال: “ما أنا على الفتيا بجريء” وكتب إلى بعض عماله: إني والله ما أنا بحريص على الفتيا ما وجدت منها بُدَّا.
وقال سفيان الثوري: “أدركنا الفقهاء وهو يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بُدَّاً من أن يفتوا وإذا أُعفوا منها كان أحب إليهم”.
وقال أبو حنيفة: “لولا الفِرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المَهنأ وعليَّ الوزر”.
وعن مالك: “أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار كيف خَلاصه ثم يجيب.
وعن الشافعي: وقد سُئل عن مسألة فلم يجب فقيل له، فقال: “حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب”.
وقال أحمد: “من عرَّض نفسه للفتيا فقد عرَّضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجأ إليه الضرورة قيل: فأيما أفضل الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي، قيل له: فإن كانت الضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة”، وقال: “الإمساك أسلم له وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره ونهيه وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك”[19].
وعن جابر بن زيدان أن ابن عمر لقيه في الطواف فقال له : “يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق ، أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت”[20].
وكلام السلف في هذا المعنى كثيرٌ جداً دلالة على عظم الأمر وخطورته لذا كان التورع من السلف عن الفتيا مخافة الخطأ والوقوع في الوعيد، إلا أن حاجة الأمة للفتوى كبيرةً جدًا، وقد لجأ المسلمون للاستفتاء منذ الصدر الأول للإسلام، فقال تعالى: “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ” [النساء:176]، وقال سبحانه وتعالى: “وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِن” [النساء:127]، ولئن كانت حاجةُ الأمةِ إلى الفتوى كبيرةً فيما مضى، فإن الحاجة إليها في هذه الأيام أشدُّ وأبقى؛ فقد تمخض الزمان عن وقائعَ لا عهد للسابقين بها، وعرضت للأمة نوازلُ لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعُها، فكانت الحاجةُ إلى الإفتاء فيها شديدة لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة، وقد يتهاون البعضُ في أمر الفتوى، فيتصدى لها مِن غير أن يكون على درايةٍ وعلم بما يُفتي فيه، فيكون بذلك قد ضلَّ وأضلَّ؛ فالفتوى في الدينِ لها ضوابط معينة لابد من الالتزام بها ومن أبرزها ما يأتي:
1ـ العلم:
اتفق العلماء على جواز إفتاء المجتهد العالم، واتفقوا على عدم جواز الإفتاء لمن لم يُعرف بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة[21]. ووجهتم في ذلك أنَّ المفتي في هذه الحالة يعتبر من أهل الذكر الذين أمر الله تعالى بالرجوع إليهم حيث قال جل شأنه : “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” (الأنبياء :7) وأما دليل تحريم الفتيا من الجاهل قوله تعالى: “وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ” (النحل: 116) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»[22].
فيشترط في المفتي أن يكون عالما بعدة أمور منها[23]:
أ ـ أن يكون عالماً بمواقع الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام ليتمكن من الرجوع إليها عند الحاجة، وأن يعرف الناسخ والمنسوخ منها والمحكَم والمتشابه والمفصل والمجمل والعام والخاص وكل ما يتعلق بها.
ب ـ أن يكون عارفًا بالأحاديث النبوية المتعلقة بالأحكام وأن يعرف الصحيح والسقيم منها والمقبول والمطعون والناسخ والمنسوخ والعام والخاص وأن يكون عالما بحال الرواة من التعديل والتجريح حتى يعرف من تقبل روايته ومن لا تقبل.
ج ـ أن يكون متمكنًا من المسائل المجمع عليها حتى لا يُفتى بخلاف ما أُجمع عليه وأن يَعرف بغلبة الظن بأن هذه المسألة مستحدثة وليس لأهل العصور السابقة كلام فيها.
دـ أن يعرف القياس وشرائطه المعتبرة فيه لأن القياس تُبنى عليه أحكام كثيرة.
هـ ـ أن يكون عالماً بكيفية النظر فيكون عارفًا بشرائط الحدود والبراهين وكيفية ترتب المقدمات فيها واستنتاج المطلوب منها ليأمن الخطأ عند النظر والاجتهاد.
و ـ أنْ يكون عارفًا باللغة العربية من نحو وصرف، لأن استنباط الأحكام من الكتاب والسنة متوقف على ذلك باعتبار أنهما عربيان.
2ـ المفتي يجعل الناس على الوسط بين الشدة والرخصة.
من المعروف أن الشريعة الإسلامية الحكيمة، قد جاءت بالصراط المستقيم، وأن مقصد الشارع من المكلَّف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط وعليه فينبغي على المفتي الواعي العارف أن يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين[24].
وللمفتي أنْ يأخذ بالأشد في خاصة نفسه، فيُخفي ما لعلَّة يُقتدي به فيما هو الأشد بين الأمور سرًا فلربما اقتدى من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع ، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل، إذ كان قد فاق الناسَ عبادة وخلقاً ، و كان عليه الصلاة والسلام قدوةً يُقتدى به، ولما كان العمل الظاهر الأشد محتملٌ للاقتداء كان لا بد من التنبيه عليه كما فعل صلى الله عليه وسلم، كنهيه عن الوصال كما في حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ تُوَاصِلُوا» قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: «لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ، وَأُسْقَى، أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى»[25].
وقد قال تعالى: “وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ” (الحجرات:7).
روى الخطيب البغدادي عن مالك بن أنس: أنه كان يعمل في نفسه بما لا يُلْزِمُهُ النَّاسُ، وَلَا يُفتيهم به، ويقول: «لا يكون العالم عالِمًا حتَّى يعمل في خاصَّة نَفْسِهِ بما لا يُلْزِمُهُ النَّاسَ ولا يُفْتِيهِمْ به، بما لو تَرَكَهُ لم يكن عليه فيه إثم»[26].
ولهذا والله أعلم أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يُتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضًا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه.
4ـ ألا يغفل المفتي “التوجيه التربوي” وأن يجعل فتواه فرصة للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ففتواه هذه قد يطلع عليها جمهور من الناس.
5ـ مراعاة حال المخاطبين والذين يقرؤون أو يستمعون إليها الفتوى من حيث صياغة الفتوى ولغتها، فهناك الأمي والمتعلم والمفكر والطالب والصغير والكبير والذكر والأنثى[27].
فلا يتحدث إلا بما يعقل ويفهم، فقد أُثِرَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ، بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ»[28].
6ـ على المفتي مراعاة مقاصد الشريعة خاصة فيما يتعلق بالمسائل السياسية والأوضاع الراهنة، كي لا يحدث فتنة في المجتمع تسبب عداوة أو مشكلة تؤدي إلى ضرر ومفسدة كبرى، فعلى المفتي أن يكون ذو وعي ويقظة وحكمة واطلاع على الأحوال السياسية الحاكمة.
7ـ أن يغلب على ظن المفتي أن المستفتي طالب للحق لا مجادل فيه، ولا يريد من المفتي تبرير باطله، فإن علم منه ذلك لم يجب عليه بيان الحق له، ويمتنع عن إفتائه، فقد أنكر الحسن على أنس رضي الله عنه تحديث الحجّاج بحديثِ العرنيّين[29]؛ لأنه اتخذه سبيلًا لظلمه وتعذيبه للناس[30].
8ـ ضرورة معرفة المفتي بعرف مجتمع المستفتي وعادته لما لكثير من الأحكام من تعلق بالعُرف، كمقدار النفقة والصريح والكناية في الطلاق والأيمان والظهار والبيوع، ومقدار ما يؤكل من مال اليتيم، فلا بد من مراعاة العُرف القولي والعملي، مما تختلف فيه المجتمعات بحسب عوائدها ولغاتها.
9ـ على المفتي التَّبصر بحال المستفتي وما هو عليه من مكر وخداع، أو اختلاف في القوة والضعف، فكلها صفات قد توجب اختلاف الحكم، فقد يرى المفتي أن يُفتي لمستفت في موضوع بالتشديد، ويفتي لآخر في نفس الموضوع بالتخفيف؛ لاعتبارات يراها هو تتعلق باختلاف حال كل منهما، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: “كنَّا عند النبَي صلى الله عليه وسلم، فجاء شابٌ فَقال: يا رسول الله، أُقَبِّلُ وأنا صائِمِ؟، قال: لا، فجاء شيخٌ فقال: أُقبِّلُ وأنا صائم؟، قال: نعم، قال؟ فنَظر بعضُنا إلى بعض، فِقالِ رسول الله صلي الله عليه وسلم: قد عَلِمْتُ لِمَ نَظرَ بعضكم إلى بعْضٍ، إن الشيخ يَمْلِك نفسه”[31].
ويشهد لذلك أيضًا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان إذا سُئل: هل للقاتل توبة؟ يسأل: هل قتل أولًا؟ فإن قال: إنه قتل، قال: نعم، له التوبة، فإن قال: لم أقتل بعد، قال: لا توبة لقاتل”[32].
[1] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ط3، (بيروت: دار صادر، 1414ه)، 15:147.
[2] ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، فتاوى ابن الصلاح، (بيروت: مكتبة العلوم والحكم، 1407ه)، 7.
[3] القرافي، أحمد بن إدريس، الفروق، (بيروت: عالم الكتب، د.ت)، 4/53.
[4] الزحيلي، وهبة، الوسيط في أصول الفقه، (دمشق: المطبعة العلمية، 1996)،795.
[5] البركتي، محمد عميم، التعريفات الفقهية، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2003)، 162.
[6] ـ ابن حمدان، أحمد بن حمدان، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، (بيروت: المكتب الإسلامي، 1397)، 4.
[7] ابن منظور، لسان العرب، 12/248.
[8] الرازي، محمد بن أبي بكر، مختار الصحاح، ط5، (بيروت: المكتبة العصرية، 1999)، 127.
[9] الفيومي، أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، (بيروت: المكتبة العلمية)، 1/236.
[10] البركتي، التعريفات الفقهية، 105م.
[11] نكري، القاضي عبد النبي بن عبد الرسول، جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، ط2، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2000)، 2/102.
[12] علي، نبيل، الثقافة العربية وعصر المعلومات رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، (الكويت: سلسة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،2001)، 77، بتصرف يسير.
[13] أبو البصل، عبد الناصر، ضوابط الفتوى عبر الفضائيات، بحث مقدم لـ(المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها)، مكة المكرمة، 2009م.
[14] كايرو، إلكسندر، الفتاوى الرقمية والتحول المُستمر في المرجعية الدينية، مقال منشور على موقع الجزيرة نت.
[15] ينظر: ابن فرحون، إبراهيم بن علي، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1986)، 1/ 18-19.
[16] كايرو، إلكسندر، الفتاوى الرقمية والتحول المُستمر في المرجعية الدينية، مقال منشور على موقع الجزيرة نت.
[17] الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، المستصفى، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1993م)، ص126.
[18] رواه الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، سنن الدارمي، (بيروت: دار البشائر، 2013)، رقم (145)، 129
[19] ينظر هذه النقول عند: ابن حمدان، صفة الفتوى، 6-12.
[20] رواه الدارمي، سنن الدارمي، باب الفتيا وما فيه من الشدة، رقم (176)، 134، وإسناده حسن.
[21] ينظر: الآمدي، علي بن أبي علي، الأحكام في أصول الإحكام، مح: سيد الجميلي، ط2، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1406ه)، 4/237.
[22] رواه البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، (الرياض، دار طوق النجاة، 1422ه)، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/31، الحديث (100). ومسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ت)، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه، 4/2058، الحديث (2673).
[23] ينظر: ابن القيم، محمد بن أبي بكر، أعلام الموقعين من رب العالمين، (بيروت: دار الجيل، د.ت)، 4/199-205. الجويني، عبد الملك بن عبد الله، البرهان في أصول الفقه، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م)، 2/1330. ابن حمدان، صفة الفتوى ،3/13.
[24] ينظر: الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الموافقات، (القاهرة: دار ابن عفان، 1997م)، 5/276.
[25] رواه البخاري، صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال، 3/37، الحديث (1961).
[26] الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، الفقيه والمتفقه، ط2، (الرياض: دار ابن الجوزي،1421ه)، 2/339.
[27] أبو البصل، ضوابط الفتوى عبر الفضائيات، بحث مقدم لـ(المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها)، مكة المكرمة، 2009م.
[28] رواه البخاري، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم، 1/37، الحديث (127).
[29] حديث العرنين هو: أن ناسا من عُرَينة اجتووا المدينة «فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها، وأبوالها، فقتلوا الراعي، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بِالحَرَّةِ يَعَضُّونَ الحجارة.
رواه البخاري، صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل، 2/130ن الحديث (1501). ومسلم، صحيح مسلم، كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، 3/1296، الحديث (1672).
[30] ينظر: ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، (بيروت: دار المعرفة، 1379ه)، 10/142.
[31] رواه أحمد، أحمد بن حنبل الشيباني، المسند، مح: أحمد محمد شاكر، (القاهرة: دار الحديث، 1995م)، 6/ 283، الحديث (6739). وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
[32] الدماميني، محمد بن أبي بكر، مصابيح الجامع، (سوريا: دار النوادر، 2009م)، 4/201.