
مفتي العراق الشيخ قاسم بن أحمد بن خليل بن حمد بن حسين بن خلف بن إبراهيم بن سلطان بن ملَّا يوسف من البونـزال من فخذ المصاليخ بعشيرة الكروية القيسية في العراق، موطن أسرته الأصلي مدينة جلولاء بمحافظة ديالى، ثمّ ارتحلت إلى بغداد، وفي محلة الفضل من بغداد أقامت تلك الأسرة الكريمة.
ولد الشيخ قاسم عام 1293هـ/ 1876م، ونشأ وترعرع في بيت علم، فوالده -رحمه الله- من أعلم الناس بالفرائض، ولكثرة اشتغاله به لُقِّب بأحمد الفرضي، فدفع بولده إلى مدرسة أهلية يتلقى مبادئ القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم وتجويده، ثمَّ أخذ بيده إلى مدرسة أهلية ثانية يديرها الشيخ (منيف أفندي) أحد أرباب العلم المشهورين بميدان بغداد، فتعلَّم اللغتين التركية والفارسية، ثمّ دخل المدرسة الحيدرية، وقرأ الصرف والنحو والمنطق والكلام والتصوف على الشيخ عبد المحسن الطائي، ولجأ بعدها إلى جامع الفضل وأقام فيه متجرَّدًا لطلب العلم، هذا مع كونه أديبًا ذكيًّا حازمًا حباه الله -تعالى- حسن الخَلق والخُلق، وجمع فيه كمالات الفتوة وأمهات الفضائل، وتابع -رحمه الله- طلب العلم على يد الشيخ عبد الوهاب النائب، رئيس محكمة التمييز الشرعي، وأخذ علوم العربية والفقه وأصوله، فأجازه فيما أخذ عنه، كما درس خلاصة الحساب والهندسة وعلم الهيئة وعلم الكلام على يد الشيخ غلام رسول الهندي القرشي، وأجازه إجازة خاصة بعلم الحديث، كما أجازه العلاّمة الشيخ عبد السلام الشوّاف سيبويه عصره بإجازة خاصة وعامة في العلوم العقلية والنقلية، فأخذ العلم عن أهله، ونبغ حتى أصبح من الأفراد الّذين يشار إليهم بالبنان، ويسترشد بهم الضال، وتُشدُّ لفضلهم إلى بغداد الرحال.
وشغل -رحمه الله تعالى- مناصب دينية منها: التدريس والوعظ والإرشاد في مدينة خانقين، وانتقل بعد عام لمثلها في قضاء الصويرة، ثمّ استدعي لنيابة الباب في بغداد فقبلها على مضض؛ لأنه لا يميل إلى القضاء، ثمّ أعفي بناء على رغبته، وعيّن عضوًا لمجلس المعارف ببغداد، وعضوًا لمجلس الأوقاف العلمي، وشغل عضوية مجلس التمييز الشرعي في الفترة من 1922م لغاية 1928م.

عرف العراقيون الشيخ قاسم القيسي رجل العلم والتقى الّذي لا تأخذه في الله لومة لائم، كما عرفته كلية الشريعة ببغداد خيرة أساتذتها والمربي لتلاميذها.
حاز -رحمه الله- مراتب أهل الرياسة في العلوم النقلية والعقلية ونال فيها الصدارة عن صدق وجدارة، وانتخب لمنصب مفتي العراق بعد وفاة الشيخ يوسف عطا، رحمه الله تعالى.
ويعدُّ مجلسه على شاطئ دجلة بمحلة السفينة بالأعظمية من أفضل مجالس بغداد وأنفسها، يختلف إليه العلماء والوجهاء، ويلتقي فيه الطلبة والبلغاء والشعراء من كل صوب، تولّى التدريس في مدرستي القبلانية والقادرية، فتخرّج على يديه علماء فحول، رضعوا العلم والمعرفة، ورشفوا الأدب والتقى من فيضه، أمثال: الشيخ عبد القادر الخطيب أفندي، والشيخ حامد الأورفلي، والشيخ حامد الملَّا حويش، والشيخ نجم الدين الواعظ، والشيخ عطا الله الخطيب، والشيخ حسن النائب، والشيخ علاء الدين النائب، والشيخ محمود مهاوش الكبيسي وغيرهم، رحمهم الله تعالى أجمعين.

ومع هذا كلّه فإن ذاته الكريمة وشخصيته الفذّة تتعشّق أذواقًا صوفية وصحبة مرشد كامل، يأخذ بيده إلى تطلعاته، ويوصله إلى تمنياته، حتى إذا ذاع أمر السيّد النّبهان -رضي الله عنه- واشتهر كان -رحمه الله- في أوائل الوافدين إليه، بصحبة تلميذه الشيخ محمود مهاوش في السنوات الأخيرة من حياته مرتين. وكانت الأولى عام 1952م للتعرّف والاختبار، فاجتمع بسيدنا -رضي الله عنه- ولحظ بعين المتفحّص أفعاله وأحواله، وعاين أذواقه وفهومه وعلومه، وأحضر له ثلاثة عشر سؤالًا، فأجابه -رضي الله عنه- دون أن يبدأه بسؤال ورجع بالدهشة والإعجاب، يتحدث للشيوخ وأولي الألباب.
يتابع الشيخ هشام الألوسي فيقول: «حدثنا الحاج عبد العزيز عبد الرزاق الغرس الكبيسي وكتب إلينا بخط يده: سألت الشيخ قاسم القيسي -رحمه الله-: ماذا رأيت يا سيدي من زيارتك للشيخ النّبهان -رضي الله عنه- في حلب؟
فقال لي: يا عبد العزيز، والله إن هذا الشيخ ما «سارية الجبل» عنه ببعيد، لقد أحضرت له ثلاثة عشر سؤالًا كلّها أسئلة عويصة، فأجاب عليها وعلى ترتيبها وتسلسلها عندي دون أن أبدأه بسؤال.
وأضاف الحاج عبد العزيز الغرس: كانت للشيخ قاسم صرخة في الذكر أو غيره، فشكى إليه حالته، فذهبت عنه.
وتعلّق قلبه -رحمه الله- بشخصية السيِّد النَّبهان، فكتب إليه رسالة يشرح له فيها مشاعره وأحاسيسه إلا أن سيدنا -رضي الله عنه- لا يذر من يفد عليه دون امتحان، لا سيّما أصحاب النفوس والشخصيات الكبيرة، يمتحنهم ترويضًا لأنفسهم، ليصل بهم إلى تواضع المريدين لأشياخهم، فينقادوا لتوجيهاتهم وينالوا بالتسليم لهم حظهم في السير والسلوك والمعرفة الإلهية والوصول إلى الله تعالى؛ ولأجل ذلك لم يردّ الجواب، فانفلت زمام الصبر من الشيخ المفتي -رحمه الله- بعد أن يئس منالإجابة على رسالته، وباشر بثانية محمّلة بفنون التلهف والعتاب.

حدثنا الشيخ محمود مهاوش الكبيسي -رحمه الله تعالى- وسمعت ما حدّثني به يخاطب به سيدنا -رضي الله عنه- في درس مسجّل قال الشيخ محمود: ذهبت يومًا كعادتي إلى الشيخ قاسم القيسي لآخذه بسيارتي إلى كلية الشريعة يلقي دروسه على طلبتها فإذا به في أضنك حال.
قلت: ما بكَ يا أفندي؟
قال: أنا هذا اليوم ما صليت الصبح جماعة، ولا أفطرت، ولن أذهب إلى الكلية.
قلت: لماذا يا أفندي؟ لعلك قد عملتَ مكسورة؟ [أي لعلك أتيتَ مخالفة كبيرة]؟
قال: ويلك يا محمود! من أعلمك بهذا؟ والله أنت عنتيكا [بطل حاذق]!
قلت: حالك يدلّ على ذلك.
قال: أنا كنت الليلة الماضية قد كتبت إلى الشيخ النّبهان رسالة عتاب، لأنه لم يردّ عليّ الجواب:
إذا كتب الخليل إلى خليلٍ فحــقٌّ واجـبٌ ردُّ الجـواب
أنا الشيخ قاسم مفتي العراق أكتب له رسالة ولا يردّ عليّ الجواب!
ثم أنني نمت يا حاج محمود فرأيت سيدنا الخضر n، وكنا ثلاثة، فأما الاثنان معي فرحّب بهما، سلَّما عليه وقبَّلا يديه، وأما أنا فقال لي: رُحْ، أنت مطرود، كيف تكتب رسالة هكذا إلى الشيخ محمد النبهان؟!
أنا ما لي وعتاب الشيخ محمد النبهان يا حاج محمود؟!
ما الذي ألجأني لهذه الورطة يا حاج محمود؟
لعله مدلل عند الله مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني!
ثم مزَّق الرسالة.
قلت: ما هو رأيك يا أفندي نذهب ثانيةً إلى حلب؟
قال: نعم، نذهب إلى حلب، فسافرنا معًا.
وصلنا إلى جامع الكلتاوية والشيخ قاسم ينقل خطواته على الدرج الصاعد ويقول: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ (مريم 57).
والتقينا بسيدنا النّبهان -رضي الله عنه- فرحّب بنا أجمل ترحيب، وأمضى الشيخ قاسم ليله يبكي إلى مطلع الفجر، ويقول لي: يا حاج محمود، والله أنا أعتقد بالسادات الصوفية وأحبهم، ولكن لماذا لا يُذَيقونني شيئًا من كراماتهم ومن معارفهم؟
فذلك الشيخ قاسم مفتي العراق الذي جاء في السفرة الأولى شيخًا ورجع شيخًا، أما في هذه السفرة فيستأذن بالدخول على سيدنا ويقول: «قويسم بالباب، فإذا دخل خاطبه: يا حبيبـي.
حدثنا الحاج محمّد بشير سروجي -رحمه الله- أحد أصحاب سيدنا -رضي الله عنه- قال: كان عمري يوم قدوم الشيخ قاسم المرة الثانية ستة عشر عامًا، فقال له سيدنا رضي الله عنه: تحدّث لإخواني يا شيخ قاسم، فألقى موعظةً حفظت منها: «يا أولادي: كلكم مؤاخذون عند الله تعالى مسؤولون يوم القيامة عن هذه الشخصية التي لم تعطوها حقها، والله يا أولادي نحن من بغداد نستمد نور الإله من هنا».
جاء في المذاكرات المسجلة لسيدنا النبهان بحضور الشيخ محمود مهاوش:
«قال الشيخ محمود مهاوش -رحمه الله- وهو يتحدث عن الشيخ قاسم: طلب من سيادتك اجتماعًا في بيت الحاج أحمد الصغير
فيقول سيدنا: وكان يبكي، ويبكي، ويبكي.
قال لي: إيش حجابي؟
فيقول الشيخ محمود مهاوش: وجلس مع جنابك إلى الفجر قال لي: أنا أعتقد بالسادات الصوفية وأحب السادات الصوفية.
فيقول سيدنا: صحيح.
قال الشيخ محمود مهاوش: لماذا لا يذيقونني شيئًا من كراماتهم، من أشيائهم، هل هناك مانع؟
فجنابك قلت له: مانعان، وليس مانعًا واحدًا، المانع اثنان: الحَجِّيَّة (الزوجة) والإفتاء.
وبالمرة الثانية لما راح جئتُ إليه مرة من المرات الصبح، قال: محمود! قلت له: إيه، قال: ادن مني.
قال: أبشرك أنا اليوم صرت وليًّا، اليوم صرت وليًّا، أنا شيخ العراق، مفتي الديار العراقية، أبشرك، أنا اليوم صرت وليًّا، جاء الرجال الأربعون وقالوا لي: نحن لا نبخل عليك بالولاية، لكن الإفتاء لا يوجد له غيرك، إذا أعطيناك الولاية تزهد بالإفتاء ولا يوجد غيرك بالإفتاء.
مرة جئته بالليل والأطباء منعوا أحدًا يدخل عليه، عنده شريان، وكان قال لبنته: إذا جاء الكبيسي فليدخل، هذا لا مانع عليه، قالت عمي: أبي يقول لي: أنت تدخل عليه فقط وغيرك لا يدخل.
صعدت عليه قال لي: كذب، أنا غير مريض، الأطباء سخرهم الله لي، أنا ما بي شيء، هذه الخلوة الله ساواها لي، شيخك قاعد هنا بجانبي على التخت، الشيخ نبهان موجود معي هناك.
يعلق سيدنا فيقول: صحيح، هذا الصادق، هذا الشيخ قاسم، الشيخ ميزته قلبه، ما شاء الله!، الدنيا مالها قيمة عنده، له قلب من أجمل القلوب، لا عجب فيه أو كبر، محفوظ منه، قلبه بهلول، صدره سليم، ما شاء الله!».
يتابع الشيخ هشام قوله: نعود إلى الحاج محمود مهاوش -رحمه الله- ليكمل حديثه قال: وفي تلك السفرة قال لي الشيخ قاسم: اُدنُ مني، أنت موطن سرّي، اكتب عني يا حاج محمود، اكتب: «المجموعة التي في صدري ما عاصرني بها أحد، رأيت من يفوقني في فن من الفنون، إلا أن المجموعة التي في صدري ما وُجدت لا في مصر ولا في سورية ولا في العراق، وأنا الشيخ قاسم، أنا الشيخ قاسم اكتب عني: أنا ما رأيت مثل شيخك».
قال الحاج عبد العزيز عبد الرزاق الغرس الكبيسي: «وبعد ثلاثة أيام من زيارة الشيخ قاسم لسيدنا أذن له السيد -رضي الله عنه- بالعودة إلى بغداد، فودّعه وتأخرتُ قليلًا، فقال لي رضي الله عنه: «الحق بالشيخ قاسم وبشّره بالمرتبة». فلحقت به وأبلغته البشرى.
حدثنا الشيخ محمود مهاوش الكبيسي -رحمه الله تعالى- وسمعت ما حدّثني به يخاطب به سيدنا -رضي الله عنه- في درس مسجّل قال الشيخ محمود: ذهبت يومًا كعادتي إلى الشيخ قاسم القيسي لآخذه بسيارتي إلى كلية الشريعة يلقي دروسه على طلبتها فإذا به في أضنك حال.
قلت: ما بكَ يا أفندي؟
قال: أنا هذا اليوم ما صليت الصبح جماعة، ولا أفطرت، ولن أذهب إلى الكلية.
قلت: لماذا يا أفندي؟ لعلك قد عملتَ مكسورة؟ [أي لعلك أتيتَ مخالفة كبيرة]؟
قال: ويلك يا محمود! من أعلمك بهذا؟ والله أنت عنتيكا [بطل حاذق]!
قلت: حالك يدلّ على ذلك.
قال: أنا كنت الليلة الماضية قد كتبت إلى الشيخ النّبهان رسالة عتاب، لأنه لم يردّ عليّ الجواب:
إذا كتب الخليل إلى خليلٍ فحــقٌّ واجـبٌ ردُّ الجـواب
أنا الشيخ قاسم مفتي العراق أكتب له رسالة ولا يردّ عليّ الجواب!
ثم أنني نمت يا حاج محمود فرأيت سيدنا الخضر n، وكنا ثلاثة، فأما الاثنان معي فرحّب بهما، سلَّما عليه وقبَّلا يديه، وأما أنا فقال لي: رُحْ، أنت مطرود، كيف تكتب رسالة هكذا إلى الشيخ محمد النبهان؟!
أنا ما لي وعتاب الشيخ محمد النبهان يا حاج محمود؟!
ما الذي ألجأني لهذه الورطة يا حاج محمود؟
لعله مدلل عند الله مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني!
ثم مزَّق الرسالة.
قلت: ما هو رأيك يا أفندي نذهب ثانيةً إلى حلب؟
قال: نعم، نذهب إلى حلب، فسافرنا معًا.
وصلنا إلى جامع الكلتاوية والشيخ قاسم ينقل خطواته على الدرج الصاعد ويقول: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ (مريم 57).
والتقينا بسيدنا النّبهان -رضي الله عنه- فرحّب بنا أجمل ترحيب، وأمضى الشيخ قاسم ليله يبكي إلى مطلع الفجر، ويقول لي: يا حاج محمود، والله أنا أعتقد بالسادات الصوفية وأحبهم، ولكن لماذا لا يُذَيقونني شيئًا من كراماتهم ومن معارفهم؟
فذلك الشيخ قاسم مفتي العراق الذي جاء في السفرة الأولى شيخًا ورجع شيخًا، أما في هذه السفرة فيستأذن بالدخول على سيدنا ويقول: «قويسم بالباب، فإذا دخل خاطبه: يا حبيبـي.
حدثنا الحاج محمّد بشير سروجي -رحمه الله- أحد أصحاب سيدنا -رضي الله عنه- قال: كان عمري يوم قدوم الشيخ قاسم المرة الثانية ستة عشر عامًا، فقال له سيدنا رضي الله عنه: تحدّث لإخواني يا شيخ قاسم، فألقى موعظةً حفظت منها: «يا أولادي: كلكم مؤاخذون عند الله تعالى مسؤولون يوم القيامة عن هذه الشخصية التي لم تعطوها حقها، والله يا أولادي نحن من بغداد نستمد نور الإله من هنا».
جاء في المذاكرات المسجلة لسيدنا النبهان بحضور الشيخ محمود مهاوش:
«قال الشيخ محمود مهاوش -رحمه الله- وهو يتحدث عن الشيخ قاسم: طلب من سيادتك اجتماعًا في بيت الحاج أحمد الصغير
فيقول سيدنا: وكان يبكي، ويبكي، ويبكي.
قال لي: إيش حجابي؟
فيقول الشيخ محمود مهاوش: وجلس مع جنابك إلى الفجر قال لي: أنا أعتقد بالسادات الصوفية وأحب السادات الصوفية.
فيقول سيدنا: صحيح.
قال الشيخ محمود مهاوش: لماذا لا يذيقونني شيئًا من كراماتهم، من أشيائهم، هل هناك مانع؟
فجنابك قلت له: مانعان، وليس مانعًا واحدًا، المانع اثنان: الحَجِّيَّة (الزوجة) والإفتاء.
وبالمرة الثانية لما راح جئتُ إليه مرة من المرات الصبح، قال: محمود! قلت له: إيه، قال: ادن مني.
قال: أبشرك أنا اليوم صرت وليًّا، اليوم صرت وليًّا، أنا شيخ العراق، مفتي الديار العراقية، أبشرك، أنا اليوم صرت وليًّا، جاء الرجال الأربعون وقالوا لي: نحن لا نبخل عليك بالولاية، لكن الإفتاء لا يوجد له غيرك، إذا أعطيناك الولاية تزهد بالإفتاء ولا يوجد غيرك بالإفتاء.
مرة جئته بالليل والأطباء منعوا أحدًا يدخل عليه، عنده شريان، وكان قال لبنته: إذا جاء الكبيسي فليدخل، هذا لا مانع عليه، قالت عمي: أبي يقول لي: أنت تدخل عليه فقط وغيرك لا يدخل.
صعدت عليه قال لي: كذب، أنا غير مريض، الأطباء سخرهم الله لي، أنا ما بي شيء، هذه الخلوة الله ساواها لي، شيخك قاعد هنا بجانبي على التخت، الشيخ نبهان موجود معي هناك.
يعلق سيدنا فيقول: صحيح، هذا الصادق، هذا الشيخ قاسم، الشيخ ميزته قلبه، ما شاء الله!، الدنيا مالها قيمة عنده، له قلب من أجمل القلوب، لا عجب فيه أو كبر، محفوظ منه، قلبه بهلول، صدره سليم، ما شاء الله!».
يتابع الشيخ هشام قوله: نعود إلى الحاج محمود مهاوش -رحمه الله- ليكمل حديثه قال: وفي تلك السفرة قال لي الشيخ قاسم: اُدنُ مني، أنت موطن سرّي، اكتب عني يا حاج محمود، اكتب: «المجموعة التي في صدري ما عاصرني بها أحد، رأيت من يفوقني في فن من الفنون، إلا أن المجموعة التي في صدري ما وُجدت لا في مصر ولا في سورية ولا في العراق، وأنا الشيخ قاسم، أنا الشيخ قاسم اكتب عني: أنا ما رأيت مثل شيخك».
قال الحاج عبد العزيز عبد الرزاق الغرس الكبيسي: «وبعد ثلاثة أيام من زيارة الشيخ قاسم لسيدنا أذن له السيد -رضي الله عنه- بالعودة إلى بغداد، فودّعه وتأخرتُ قليلًا، فقال لي رضي الله عنه: «الحق بالشيخ قاسم وبشّره بالمرتبة». فلحقت به وأبلغته البشرى.

جمع من علماء العراق يتوسطهم الشيخ قاسم القيسي، و الشيخ نجم الدين الواعظ.
حدثنا الشيخ طراد عبطان محمّد ياسين الشامي الكبيسي من الرطبة في العراق قال سمعت سيدنا النّبهان -رضي الله عنه- يقول: إن الفتح الذي حصل للشيخ قاسم القيسي كان قبل وفاته بأربعين يومًا فقط ونال فيه مرتبة الأبدال».
وآخر رسالة بعث بها الشيخ قاسم إلى سيدنا النّبهان -رضي الله عنه- بعد أن نال المرتبة وفتح الله عليه بفتوح الأولياء إلا أنه -رحمه الله- لم يرسلها مباشرة، بل دفع بها إلى أحد أصحاب سيدنا الحاج فوزي شمسي رئيس جمعية النهضة الإسلامية بحلب، وقال له: لا أتمكن من مباشرة شيخي بخطاب، وألتمسك تقديم رسالتي إليه، مقترنة ببطاقة تهنئة بالعيد، متمثّلًا ببيتين من الشعر، ومختومة بتوقيعه على كلمات (عُبَيدكم قاسم):
يـا ماجـِدًا جـَلَّ قدرًا أنْ نُهَنِّئُهُ لَنَـــــا الهناءُ بِظِلٍّ منك مَمْدُودِ الدَّهـْرُ أنت ويومُ العِيْدِ منك وما في العُرْفِ أنَّا نُهَنِّي الدَّهْرِ بالعِيدِ
تلك هي حالة واحد من أعلم أهل الأرض آنذاك كيف سلّم لشيخه المربي فنال ما نال ولمثل هذا فليعمل العاملون.


أرسل الشيخ قاسم القيسي رسالة يوصي بها الحاج فوزي شمسي بصحبة السيد النبهان وملازمته، قال فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم
9 من ربيع الثاني 1374هجري، الموافق 6من كانون الأول 1954 ميلادي
الحمد لله الذي ولهت بمحبته قلوب ذوي العرفان، وتاهّت في بيداء وحدانيته أهل الإيقان، والصلاة والسلام على منبع الفضل والإحسان وعلى آله وصحبه القائمين بالسنن والأركان.
أما بعد: فإني أسأل عنكم باللسان والجنان، وأشتاق إليكم كما يشتاق إلى الماء الظمآن، ولله درّ القائل حيث قال:
حديث ذوي الألباب أهوى وأشتهي كما يشتهي الماءَ المبرّدَ شاربُه
ولذا قد انشرحت بكتابتكم وامتلأت سرورًا وزدت به فرحًا وحبورًا، وحمدت المولى على صحتكم وسلامتكم كما أحمده على صحتي وسلامتي، وأترقب لكم الرقيّ والراحة كما أترقب رقيّي وراحتي.
أي أخي فوزي: عليك بالتمسك بنصائح شيخكم الكبير فإنها الذهب والإكسير، فإني اختبرت هذا الشيخ الكامل فرأيته يعطي المعنى الكبير بلفظٍ قليل صغير.
فمن جملة ما قاله حين سألته عن كمال الحال فذكر أن الوصول إلى الله الملك المجيد بالمحبة والتوحيد والتجريد فذكر شيئًا يوافق ذوقي ويميل إليه شوقي.
وهذا كلام رجل ذائق وفي درجات اليقين فائق، وقد ذكر هذا في النظم التركي.
والعبد الفقير يقول: يلزم الإخلاص في العمل، قال صاحب الحكم العطائية: الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها.
قال بعض العلماء: مَثَلُ المرائي بعمله كمثل من يدخل السوق وكيسه ملآن بحُصيّات فإذا أراد أن يشتري شيئًا فلم يعط شيئًا بتلك الحصيّات التي كانت تظن أنها دراهم.
وعليك بالتواضع وكسر النفس فإن النفس هي الحجاب الأكبر بين العبد والرب، ولذا قال صاحب الحكم العطائية: أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا عنها، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه؟! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟!
ولله درّ الإمام البوصيري إذ يقول:
وخالف النَّفْسَ والشيطانَ واعصِهِما وإنْ هما مَحَّضاك النُّصْحَ فاتَّهِم ولا تُطِعْ منهما خَصْمًا ولا حَكمًا فأنت تَعْرِفُ كيدَ الخَصْمِ والحَكَمِ
وذكر في الطبقات الكبرى للشعراني أن رجلًا من الصالحين كان يرى الخضر عليه السلام فسأله يومًا عن القاضي زكريا الأنصاري وعن حاله، فقال: لهو رجل من الصالحين إلا أنه فيه نُفيسة، والسبب في ذلك أنه كان يقول عند الشفاعِة لشخص عند الوالي قل له الشيخ زكريا يقول: كذا وكذا ولم يقل زكريا.
انظر حبيبي إلى الأكابر يعاتبون على أدنى شيء.
وعليك حبيبي بالتمسك بشيخك، واربط قلبك بحبه فإن من نظر إلى شيخين أو أكثر تشوش.
حكى أن ولدًا كان له شيخ وكان الخضر -عليه السلام- يأتي إلى الولد كل يوم ويزوره ويعطيه رغيفًا من خبز، فانقطع الولد عن شيخه أيامًا، ثم جاء اليه فقال له الشيخ: ما هذا الانقطاع يا ولدي؟! فقال: الخضر يأتيني كل يوم برغيف ويزورني.
فقال له الشيخ: إن كنت تلميذي فلا تذهب إلى الخضر، فجاء إليه الخضر وقال له: إن شيخي يقول: لا تذهب إلى الخضر ـ فقال له الخضر -عليه السلام-: هكذا افعل والزم وتابع الشيخ كشيخ واحد فإنما هو أنا كما قال بعضهم:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَللَنا بَدَنا لا أنـاديـه ولا أذكــره إن ذكري ونـدائي يا أنا
هذا وسلامي وفائق شوقي واحترامي إلى سماحة شيخكم الكبير، وإلى الحاج محمود الكبيسي وصاحبه الحاج جاسم الحاج محمد الفياض، وإلى حضرة عبد الحميد المهندس، وإلى محمد أبو عمر الدباغ. قاسم القيسي».

في صبيحة السابع والعشرين من محرم سنة 1375هـ الحادي عشر من أيلول 1955م أيقظت إذاعة بغداد الناس على نبأ مؤلم ومصاب جلل، وابتدأت الجموع تتوافد على الأعظمية من كل فج، في وقت اقتصرت الإذاعة برامجها على القرآن الكريم والمدائح النبوية والمواعظ، حتى إذا كانت الساعة الخامسة عصرًا غصّت الشوارع بالجماهير المنتحبة، ثمّ صُلي عليه في جامع سيدنا أبي حنيفة النعمان، وأمّهم الشيخ نجم الدين الواعظ، وزحفت مئات الآلاف تحمل عزيزها على الأعناق، يتصدرهم العلماء والوجهاء والأمراء، وتعتليهم الرايات واللافتات والأعلام، وأهل التكايا يضربون بالدفوف ويرتجزون المدائح التي اعتاد أهل بغداد تشييع أكابرهم بها «شال بحر العلم شال، شال شيخ للشريعة، شال بحر العلم شال، شال أبو عيون الوسيعة، شال بحر العلم شال».
وقد أغلقت الأسواق والمقاهي وتوقفت حركة السيارات والعمل لأكثر من ثلاث ساعات، وهكذا ودّعتْ العاصمة العراقية فقيدها ومفتيها رغم الحر الشديد ومسافة لا تقل عن خمسة أميال إلى أن وصل الموكب إلى الحضرة القادرية، ليقضي الشيخ قاسم القيسي -رحمه الله- حياته البرزخية في أكنافها.
ترك -رحمه الله تعالى- آثارًا جليلة قاربت الأربعين مؤلفًا في شتى العلوم والفنون، لم يكتب لأكثرها أن يرى نور الشمس، فبقيت مخطوطات، وحين وافاه الأجل كان خطيب الحضرة القادرية، ورئيس جمعية الهداية الإسلامية.
وبعد رحيله بثلاث عشرة سنة كانت زيارة سيدنا النّبهان -رضي الله عنه- الثانية إلى العراق، فسمعته يذكر الشيخ قاسم القيسي -رحمه الله- بقوله: «الشيخ قاسم القيسي والشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ فؤاد الآلوسي لهم مجلس معنا عند رسول الله». وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون».
اللهمّ اجعل كتابه في عليّين، وألحقه بالنبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
مراجع:
اضغط هنا