السيرة الذاتية للشيخ الجليل الحاج محمود محمد اللافي

من علماء العراق
اسمه ونسبه: هو الشيخ محمود بن محمد بن لافي بن عبد اللطيف الساطوري الأموي القرشي.
قال العلامة عبد الملك السعدي: “ما وفى لي أحد حتى مماته مثل الحاج محمود اللافي)، وكان ينعته دائما بأخي المسلم.

مولده ونشأته: في قرية “السجارية” التابعة لمدينة الرمادي ضمن محافظة الانبار -غربي البلاد- ولد المترجم عام (1910م) في ظل عائلة طيبة عُرفت بأصالتها واستقامتها، وهو أصغر أخويه (الحاج أحمد، والحاج هميّم اللافي) رحمهما الله، والأخير اشتهرت العائلة باسمه لفرط كرمه وطيبه، وهم من العوائل التي هاجرت من بلاد الشام وقطنت العراق، ويتصل نسبهم بالخليفة (عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-)، فنشأ الشيخ في كنف والديه متلقيا الرعاية والاهتمام، وتزوج اثنتين الأولى الكبيرة رحمها الله من خيرة العوائل في الرمادي قبيلة العبيد وولدت له تسعة ذكور واربع بنات والثانية من عشيرة البوعيثة أمراء الدليم وولدت له ستة أولاد وابنتان، التحق الشيخ بحلقات الكتاتيب، فقرأ القرآن الكريم وحفظ ثلثاه على الملاّ (أحمد الدرب الفهداوي)، ثم تعلّم القراءة والكتابة والخط والاملاء وعلم الحساب على يد الملاّ (سرهيد الخلف)، وكانوا يكتبون على صفائح (التنك) ثم تُغسل بالماء وتُنشّف، ثم يُكتب عليها مرة أخرى، وتلقّى كل ما يتطلبه من علوم الشريعة وآداب الدين وأصوله.

دراسته وشيوخه: انتقلت الاسرة إلى مركز مدينة الرمادي عام (1941م)؛ ليبدأ انطلاقته الحقيقية في طلب العلم بين يدي العلماء، فكان عالمُ مدينة الرمادي وأستاذها الشيخ (عبدالجليل الهيتي) أوًّل من درس على يديه الشيخ جميع العلوم الشرعية، وبقي ملازما له عدة سنوات حتى أتمها وأتقنها، والشيخ محمود اللافي هو الوحيد الذي حصل على الاجازة العلمية العامة من (الشيخ الهيتي)؛ لأنه عُرف عن الهيتي صعوبته في التدريس وشدَّته على الطلاب؛ ليُخرّجهم علماء متمكنين يقودون ولا يُقادون، ثم قرأ بعد ذلك على مفتي العراق الشيخ العلامة (أمجد الزهاوي) في مدينة بغداد عددا من كتب (الفقه وأصول الفقه والحديث….الخ)، وكان ملازماً له في كثير من أسفاره، ولا سيما حينما يزور محافظة الأنبار للدعوة، فكان يستقرُّ في بيت الشيخ اللافي، وكان يوصيه قائلا: “أخي حجي محمود أكثروا من المساجد في القرى والأرياف ولو من طِين)، وكذلك درس ولازم الشيخ العلامة (محمد محمود الصَّواف) الذي كان يعتبره ساعده الأيمن في الدعوة والعمل، وقد أكمل الاجازة في القرآن الكريم على يد الملا السيد (عبد اللطيف عبد الرحمن)، وأصبح من العلماء الأعلام المُشار لهم بالبنان.

عمله الديني: انطلق الشيخ داعيا الى الله تعالى في محافظة الانبار ومدن العراق، وصحبه جمع من العلماء جابوا القرى والارياف والقصبات، فضلا عن مركز المدينة، يعلمون الناس أمور وأسس دينهم، ويحثّونهم على الصلاة والالتزام بتعاليم الاسلام، وقد عُيّن الشيخ في دائرة الأوقاف بصفة “واعظ” لواء الدليم في الانبار، ثم إماما وخطيبا في جوامع المدينة وريفها منها (جامع الزبير بن العوام في منطقة الجزيرة الحامضية، ثم انتقل بعد أن قضى وقتا فيه الى جامع هارون الرشيد في الرمادي، وعمل على بناء المساجد في أماكن كثيرة، منها مسجدين كبيرين في مركز المدينة احدهما جامع الحاج هميم اللافي في الجمعية الذي تناوب الخطابة فيه كبار العلماء منهم الشيخ الشهيد عبد الجليل الفهداوي والشيخ صبحي الهيتي والشيخ فاضل الدبو والشيخ يحي الناصر رحمهم الله جميعا حتى ارتقى فيه خطيبا ولده الشيخ سعيد اللافي لعقد ونصف، ويُعد من اهم المساجد المركزية في الرمادي والثاني جامع صلاح الدين او الحاج أحمد اللافي، في حي الضباط الذي برز فيه خطيبا وعالما كبيرا هو الشيخ الدكتور موفق الدليمي، كل هذا النشاط تزامن مع مواجهة الملاحدة ودعاة الانحلال، وتضييق الحكومات وتم بناء “جامع الرمادي الجديد” المعروف بجامع الشيخ عبد الجليل الهيتي رحمه الله بعد أن استقرّ فيه، ثم ارتقى المترجم منبره مع منبر جامع الرمادي الكبير -وهذه كانت بين الفينة والأخرى-، وممن صحبه في تجواله ودعوته العلامة الشيخ (عبدالملك السعدي) رفيق دربه وخليله وإخوانه العلماء الأجلاء الذين قدموا من الفلوجة واستقروا في الرمادي، ليحملوا راية الدعوة فيها حيث تفرغ الشيخ العلامة السعدي للتدريس وتنشئة العلماء في “جامع الرمادي الكبير”، ثم افتتح فيه المدرسة الدينية فكان الشيخ اللافي خير معين له وساندا لاسيما ان الشيخ كان ميسور الحال غنيا سخر كل ماعنده لخدمة العلم والعلماء فكان مثالا حيّاً في جمع وتوحيد كلمة العلماء، ونبذ الفرقة بينهم حتى أصبح ملجأ لهم يوفق بينهم ويصلح، ولطالما شهدت داره المئات من الدعوات التي عقدت للصلح وتنتهي بالرضا ؛ بسبب ما يحمل من صفات كريمة أهَّلته لذلك، والكل يعلم عنه صفاء القلب وسلامته، وصدق السريرة، وحب الخير للآخر والوفاء، حيث عُرف عنه انه كان لايقبل ان يغتاب عنده احد ابدا ولا يجامل على الحق قطعا، ثم استمر الشيخ في الدعوة والإرشاد حتى عام (1983م) حيث تقاعد من الوظيفة الحكومية وبقي شعاره (أن الدعوة إلى الله لا تقاعد منها حتى الموت)، فما كان يترك مجلس عزاء ولا فرح ولا لقاء الا وهو سبّاق لحضوره، يُعلّم وينصح، وقد اهتدى على يده المئات وتابوا، بل دخلوا في الدعوة وأصبحوا من أهلها، كما مضت كلماته وكرمه مضرب الأمثال، ثم عمل على تأسيس رابطة علماء الأنبار مع بقية العلماء وكان عضوا فيها، ثم نائبا لرئيسها، مع عضويّته في مجلس الفتوى، وبقي إلى يوم وفاته.


تأثّره بالصّواف: كان من أوائل المتأثرين بالشيخ (الصّواف) الحاملين لواء الدعوة معه، وحَدَّث مرّة قائلا: “ما كنا نعرف شيئا (اسمه العمل الجماعي، ولا حمل الدعوة، ولا إعادة الناس إلى دين الله تعالى) إلاَّ حينما التقيتُ بالشيخ الصّواف، الذي كان شعلة وقّادة، وطاقة ليس لها مثيل، فبايعته على الدعوة والبذل حتى الموت، وكان معه خيرة العلماء والوجهاء آنذاك منهم صاحبه وحبيب روحه وأخلص الناس له الحاج (أبو طاهر جمعة نافع الراوي)، وكذلك الأستاذ الدكتور عدنان محمد سلمان الدليمي رحمه الله.
معاصرته للأنظمة الطاغية: عاصر الانقلاب الإنكليزي على الدولة العثمانية، واحتلال بغداد للمرة الأولى من قبل البريطانيين، وعمُره آنذاك (سبع سنين)، فبقيت عالقة في ذهنه وما جرى خلالها من احداث، كما عاصر ثورة العشرين التي ذَكَرَ أنهم لم يُسمح لهم بالقتال ضد الإنكليز؛ لصغر سِنِّهم، فحمل مع أقرانه للمقاتلين الطعام والسلاح والمؤن، وقوفا مع جيش الخلافة العثمانية في (معركة الحبانيّة)، كما عاصر الحُكمين الملكي والجمهوري، وكل الانقلابات حتى سقوط نظام حزب البعث عام (2003م) واحتلال بغداد للمرة الثانية على يد الأمريكان وأعوانهم، فعاش الشيخ حياة مليئة بمحطات التضحية والمواقف التي لاتعد ولا تحصى .

شخصيّته القيادية: عرف عنه تمسّكه بالسنة، يدافع عنها ويدعو لها، ومظهره يدلُّ على ذلك، فلا يقبل باغتياب أحد أمامه أبدا، حيث يحمل قلبا رحيما يُحسن الظن بالناس، لا يتكلم الا باللغة العربية الفصحى حتى مع أهله، وهبه الله بميّزات وصفات منها (شخصيته القيادية) حيث يُجيد التعامل والعمل الجماهيري والعشائري والقبائلي، وتربطه بهم علاقات متينة وواسعة مبنية على الحب والاحترام، حتى تزوج منهم زوجته الثانية من أمراء الدليم بنت الشيخ كردي منديل عبد الحميد العيثة فكان له اثرا كبيرا في دخوله على تلك القبائل واعظا وموجها، مع ما له من مهابة وشجاعة وجرأة وإقدام، وهذا ما أهّلَهُ لأن يكون أحد أبرز قيادات الحركة الإسلامية في العراق، وكذلك شهامته ونخوته وغيرته، مما جعل الدعوة الاسلامية تتقي به كل أعدائها، وإنّك لتجد لسان حاله يقول في كل نازلة ومحنة يهابها الرجال (أنا لها أنا لها)، حتى قالوا: “ما كنا نخاف على الدعوة وفيها محمود اللافي”، ومن صفاته (الكرم) حيث عُرِف بغناه المادي ووفرة أملاكه، وتُعدّ عائلته من العوائل المعروفة على مستوى العراق باسم بيت هميم نسبة إلى أخيه الاكبر الحاج هميم رحمه الله الذي سبق صيته اسمه ، وقلَّ أن تجد آنذاك عالما متمكنا ووضعه المالي على ما يُرام فكان يقول: “والله ما لبست العمامة وتمسكت بها في حِلّي وتِرحالي الا لأُغيّر صورة الناس عن العلماء انهم فقراء وليقولوا عنهم يُعطون ويُنفقون ويبذلون وأنهم أغنياء” كل هذه المواصفات أهّلته ليكون من قادة تلك المرحلة الخطيرة على الإسلام ووجوده في العراق، لا سيما بعد بروز فكر الإلحاد الشيوعي وانتشاره في العراق عامة والأنبار خاصة، وقد اشتهرت عنه كلمات حفظها أصحابه وأهل الأنبار منها (شِغلة إسلامية، مسلم مُكَعّبْ -أي يدعو الى الله- أنا أخو الإخوان المسلمين، وقعة اسلامية).

مواجهته للشيوعيين: كانت له معهم صولات وجولات في حماية العقيدة، وصدّ شبهاتهم، وذات يوم اشتد الخطب والتضييق عليهم فاعتقلوا الشيخ الهيتي، فما كان منه إلاّ أن صعد المنبر وخطب خطبة عصماء أثارت العواطف، فخرج الناس على اثرها بمظاهرة كبيرة يقودهم بها، وانتهت بخروج الهيتي، وفكّ الحصار عن معهد المعلمين المحاصر من قبل الشيوعيين، وطردوهم من الرمادي وكُسروا شوكتهم ، وتحركت معهم المدن المحيطة بهم واحدة تلو الأخرى حتى انحسرت قوتهم، ولقوا جزاء ما فعلوه من تنكيل وقتل وتشريد واعتقال، والحال كذلك في عهد القوميين الذين ركبوا موجة الثورة واستولوا على الحكم آنذاك، وقد قطفوا ثمار جهود العلماء والدعاة الابرار، حيث ان جهودهم التي بذلوها بعد عون الله تعالى هي من أسس لهذه الصحوة الإسلامية التي ظهرت ثمارها في بداية التسعينات من القرن الماضي وإلى يومنا هذا، وأغلب ما بني من المساجد كانت اساسا ونبراسا لوجود المصلين وعمرانها بهم، وجُلّ شيوخ العشائر كانوا معهم في تلاحم عجيب دفعهم لأن يكونوا جنودا أوفياء لحمل الدعوة والدفاع عنها.

قضية القدس: فلسطين هي شغله الشاغل، وقضية كل غيور، فكان متحمسا لها لا يهدأ له بال، ولا يقُرّ له قرار ما دامت في أيدي الصهاينة، وكانت كلماته في خطبه ودروسه ووعظه نيران تلتهب، وتحسّ بحرقة قلبه مع سيلان دموعه لأجل ما حصل فيها، وبعد حرب الثماني والأربعين التي احتلت القدس الشرقية فيها، تم عقد مؤتمر عالمي في القدس الشريف عام (م1953-1373هـ) ، ووجهت دعوات لكل علماء المسلمين في العالم الإسلامي، وكان الممثل عن العراق (الشيخ العلامة أمجد الزهاوي، والشيخ العلامة محمد محمود الصواف، والشيخ محمود محمد اللافي، والأستاذ أمين حمدي السامرائي)، حيث كان مؤتمرا حاشدا للدفاع عن الأقصى وفلسطين، واتخذت فيه قرارات عملوا على تنفيذها لولا خيانة حكام العرب آنذاك، وقطعوا الطريق أمام الشعوب لمنع تحركهم لتحرير الأرض المغتصبة، ولم يترك موطنا ينصر فيه دين الله يدعى له إلا وأجاب، سواء كان مؤتمرا أو احتفالا أو محاضرة أو خطبة.

حكم الإعدام: بعد بروز نجمه كقيادي جماهيري وعالم متمكن مؤثر في مجتمعه بدأت تلوح خيوط المؤامرة عليه أيام الشيوعيين لقتله أو اعتقاله أو نفيه، كما كانت لأغلب العلماء العاملين آنذاك وعلى رأسهم الشيخ الصَّواف الذي لاقى ما لاقى، وكانت الحرب معهم على أشدّها، فتمّ اعتقاله مع مجموعة من الوجهاء وأهل الدعوة البارزين، وحيكت لهم تُهَم بالتآمر ومحاولة الانقلاب والقتل وهلُمَّ جرا، فمَثَل أمام القاضي وبحضور أربعين شاهدا كلهم يقول: رأيت “اللافي” يرمي علينا الرصاص في المظاهرات بفردين اثنين -ويقصدون المسدس الوبلي الذي يُطلق خمس اطلاقات-، والشيخ لا يعرف أغلبهم، وكانت الأحكام جاهزة وهي الحكم بالإعدام سَحْلاً بالحبال حتى الموت، فعلى تكبيرهم واحتسابهم عند ربهم، ولم تفارقهم الابتسامة أبدا، وكأنهم أخبروا بشيء كانوا ينتظرون لقياه بعد طول فراق، فلما عادوا إلى السجن قال الشيخ لمن معه ممازحا -وهي المقولة التي اشتهرت وصار يضرب بها المثل- “والله نحن لم نتفق هكذا، فحسن البنا ضحك علينا وقال ستعتقلون وستنفون وستقتلون، لكن ما قال لنا ستُسحلون بالحبال) فضحكوا ضحكا أنساهم همومهم والمحنة التي هم فيها، كيف لا وهو يردد دوما: ركضا إلى الله بغير زاد الا التقى وعمل المعاد، وكذلك شعار البنا (احرص على الموت توهب لك الحياة)، فكانت أقدار الله تعالى ودعوات المخلصين وتمسكهم بحبل الله المتين تفعل ما لا تفعله أي قوة في الأرض، حيث حدث تغيير وانقلاب فتغير القاضي وأُعيدت المحاكمة، فطُلب الشهود ولم يحضر من الأربعين أحد، ولم يثبت من التهم عليه شيء، فقال القاضي: انت تطلب الحكومة ستة أشهر، ولا تطلبك الدولة في شيء فتمّ الإفراج عنه، وذلك بفضل الله، ثم بفضل إخوانه وأحبابه ومن تربوا على يديه الذين ما تركوه في ساعة عسرته.

مواقف لا تنسى: كان الشيخ عالما مقداما صادقا، صريحا لا يقبل أن تنتهك حرمة الدين أو أحد من إخوانه أو المسلمين وهو جالس يتفرج، فلطالما وقع في أتون المواجهة مع المناوئين من القوميين والشيوعيين والبعثيين، وتسببت في سجنه، ومنها إبعاده إلى مدينة زاخو -شمال العراق- سنة كاملة، لكنها لم تُثنِ عزيمته وبقي صامدا لحين وفاته، ففي أخطر حادثين مرت بهما الحركة والدعوة في العراق هي اعتقال مجموعة كبيرة بداية الثمانينات من القرن الماضي، وكشفت كل تفاصيلها، وأصبح أغلب قياداتها إما هاربا أو مختبئا أو معتقلا، والمفترض أن المترجم كذلك، لكنه فاجأهم بما لم يتوقعوه، فذكر أحد الدعاة الحادثة قائلا: “مرضتُ في السجن ونقلت إلى المشفى للعلاج، فرقدت مدة، أخبروني ذات يوم بأن شخصا جاء ليُسلِّم عليَّ! فقلت من هذا الذي جازف بحياته ليزورني؟ ففاجئني اللافي حاملا معه (صحنا كبيرا وعليه خروف كامل وقال لي: هذا طبخ البيت وبعده ساخن)، فتلعثمت ماذا أقول؟ أأُرحب به أم أشفق عليه؟ وهو من أول المطلوبين، وغزاهم في عقر دارهم، فما استطاع أحد منهم عمل شيء.
ولما اعتقل د. محسن عبد الحميد في (1998م) على يد حزب البعث، وكُشِف أمرهم فإذا بالشيخ اللافي يقف للدعوة على كِبَر سِنّه موقفا عجز أن يفعله أقرانه، فجاء إليه بعض قيادات الدعوة وطرحوا عليه أن يعلن عن نفسه أنّه المسؤول الأول للجماعة والمراقب العامّ لها، وأنه من يقود العمل ليتمّ الافراج عن الباقين، -وحتما ستكون المواجهة أمام آلة حزب البعث-، وبلا تردد وافق وقال: أنا لم يبق من عمري شيء، وأُمنيتي شهادة في سبيل الله، وهي أغلى أمانيّ، ثم استخدم الشيخ تأثيراته القويّة على أصحاب الشأن، وتدخلت الواسطات من الخارج، والشخصيات الإسلامية البارزة، فكانت كلها سببا في فرج الله تعالى.
ومرة في بداية الثمانينات زار رئيس الدولة آنذاك (صدام حسين رحمه الله) محافظة الأنبار واجتمع بالعلماء، وفي أثناء اللقاء دخل وقت الصلاة فقال الرئيس: يا الله نقوم إلى الصلاة لأنه دخل وقتها، فما كان من اللافي إلاَّ أنْ قال له وبكل عفوية واستغراب: ليش انت تصلي!؟ فلم يجب الرئيس وذهب للصلاة، عندها خشي عليه العلماء أن يصيبه أذى، لكنَّ الله سلَّمه، وبعدها وجه الرئيس لهم دعوة لزيارته ببغداد، فذهبوا اليه ووجهوا له النصح، وذكروه بالله والخوف منه، وأن يعمل على خدمة الناس والبلد، وكانت كلمة المترجم تحذيره من بطانة السوء، وحاشية النفاق، والمتملقين الذين يكونون حاجزا بينه وبين مظالم الناس، وذكر الشيخ اللافي أن ذلك اللقاء كان من أفضل اللقاءات التي حضرها.


بيت الدعوة: كان يجالس الفقراء ويأكل معهم قائلا: “الفقراء عيال الله”، وما خلا بيته منهم يوميا، بل في كل جمعة لهم معه مجلس، ولمكانة الشيخ عند علماء العراق وخاصة مدينة بغداد، كان العلماء والدعاة كلما زاروا محافظة الانبار ولأي أمر تراهم يحلّون عليه ضيوفا، وأصبح الامر عندهم من المُسلّمات، حيث يبيتون عنده الليالي ذوات العدد، وسمّوا بيته (بيت الدعوة)، واستمر حتى بلغ من السِّن ما لم يعد قادرا على الحركة والتدريس، فتفرّغ للعبادة وقيام الليل وما تركها أبدا، وبدأت أيامه تنضب، وجسمه يضعف، وأصبح شبه عاجز لكبره ومرضه،حيث بلغ التسعين لكن قلبه وروحه كانا بعمر الشباب.

وفاته: تدهورت حالته الصحية وبدأت تسوء تدريجيا بعد أن ألمَّ به المرض وفقد جزءا من ذاكرته؛ بسبب جلطة دماغية، وما عاد يتذكر الا القديم، لكنه كان يوصي أولاده: “يا بَنيّ ابقوني دوما على نظافة، فإن العالم لا بد أن يبقى نظيفا لا سيما حينما سيقدم على ربه)، وجاءت لحظة الفراق والوداع، وأتت لحظة الإنس واللقاء بمن بذل كل ما عنده لأجله، ففي صبيحة يوم السبت (20/ 12/ 2008م) لبّت روحه نداء بارئها، فخرجت مدينة الرمادي بشيوخها وشيبها وشبابها وفقرائها واغنيائها تشيّعه إلى مثواه الأخير الى تلة المشيهد في مقبرة السواطرة، وكان يوما مهيبا مؤثرا لهذا العالم الجليل، وهكذا يزدل الستار على قمر من أقمار العلم والدعوة أضاء عدة عقود، لكن انطفأ ليبقى نور الله الدائم.

المراجع:
تم التواصل مع نجله د. سعيد اللافي وزودنا بكافة المعلومات مشكورا.