في أرض الأنبار العزيزة، تلك البقعة التي سطّر أبناؤها صفحات المجد والفخر، ووقفوا شامخين في وجه العواصف والمحن التي طالتها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وها هي الا تنهض من جديد ولا تزال تنبض بروح لا تعرف الانكسار والانحناء الا لخالقها جل وعلا، وبروح تستمد قوتها من نور لا يخبو ومن معين لا ينضب إنه القرآن الكريم الذي لو نزل (عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فهذا الكتاب السماوي العظيم الذي ظلّ على مرّ الأزمان القوة الخفية التي تعيد للأرض بهاءها، وللناس رشدهم وللحياة معناها ورونقها وبهجتها.

والأنبار لم تكن يومًا أرضًا جدباء بلا أثر من النور القرآني بل كانت وما زالت منبعًا للعلم والدين وتتفجر من بين ينابيعها عمالقة الفكر والدعوة والعقول النيرة ومشايخ السلوك والتزكية والمربين وأصحاب القلوب العامرة بالإيمان، فمنذ عقود من الزمن والقرآن يعيش في قلوب أهل الأنبار الكرماء، لا ككلمات تُتلى في المناسبات بل كنهجٍ متجذر وسلوك يومي يؤتي ظلاله في البيوتات والمساجد وفي الأسواق والمجالس وفي تفاصيل الحياة كلها، فكان القرآن الكريم في هذه البقعة من الأرض محفوظًا في الصدور ومحفورًا في السلوك اليومي ومترجمًا إلى أخلاق رفيعة وصبر جميل وسلوك مستقيم يأخذ بأيدي أهله الى معارج الله العليا.

ولقد خرّجت الأنبار – في سالف عهدها – العلماء والفقهاء والحفاظ وكانت المساجد فيها مدارس للإيمان وتدريس كلام الله للعباد، والبيوت محاريب للخشوع والقلوب مصاحف تمشي على الأرض، ولم يكن مستغربًا أن تجد الطفل الصغير يحفظ آيات الله بقلب طاهر أو الشيخ الكبير يرددها بخشوع تدمع له العين، فالقرآن هنا لم يكن ترفًا روحيًا مجرداً بل هوية متجذرة في النفوس وحصن منيع لأهله وسرّ صمود أمام التحديات والمحن والملمّات.

وبعد المشهد الذي رأيناه في مسابقة “أجيال القرآن” تعود الأنبار إلى سابق عهدها وتاريخها الإيماني الطويل، بل وتكتب فصلاً جديدًا من فصول العزة والعطاء القرآني المميز حين اجتمع أكثر من 9000 مشارك ومشاركة في أضخم حدث قرآني تشهده المحافظة ضمن فعاليات مسابقة أجيال القرآن – الموسم الثالث – والتي خُصصت لحفظ “سورة الحجرات” التي تهذب النفوس وتغرس مكارم الأخلاق وتبني القيم الإسلامية الصحيحة في المجتمع على أسس الأدب والاحترام والتقوى.

فمن مدن الرمادي والفلوجة وهيت وحديثة وعنة وراوة والقائم والرطبة والخالدية والحبانية والكرمة وعامرية الصمود وغيرها توافد المشاركون، كبارًا وصغارًا ذكورًا وإناثًا يحملون في صدورهم حبّ كلام الله ويزينون أيامهم بآياته المباركات ليجتمعوا على مائدة النور والرحمة ويتنافسوا في مضمار الطاعة ويرفعوا راية “القرآن هو حياتنا”.

والجدير بالقول أن هذه الاحتفالية لم تكن مجرد تظاهرة قرآنية شاهدها الإعلام وتابعها العالم بل كانت حدثًا استثنائيًا أعاد للأنبار حياتها الطبيعة التي اعتادت عليها سنوات طويل في سالف تاريخها، وبهذه الاحتفالية وقفت الأنبار شامخة من جديد لا بسلاح ولا تناحر ولا استقتال على المناصب ولا بأعلام حزبية، بل بسفراء القرآن الذين أضاءوا سماءها وأعلنوا بصوت واحد: “نحن أهل القرآن، وبالقرآن نحيا، وعلى نهجه نسير”.

وفي يوم التكريم، مساء السبت الموافق 19/4/2025 وعلى أرض ملعب مدينة الرمادي – مسقط رأسي – كان المشهد استثنائيًا بامتياز بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث اجتمعت الجموع من كل حدب وصوب واكتظت القلوب بالمشاعر وسالت دموع الفرح وانحنت الجباه سجودًا لله شكرًا وامتنانًا حين تم الإعلان عن توزيع 116 عمرة مجانية للفائزين في المسابقة في لحظة بدت كأنها من مشاهد الجنة.

لقد كانت تلك اللحظة التاريخية أكثر من احتفال كانت إعلان ولادة جيل قرآني جديد يحمل بين جنبيه روح الإيمان وعزيمة البناء والإصلاح وحلم النهضة المنشودة، جيل سيعيد للأنبار ألقها ومكانتها وسموّها، ليس من بوابة السياسة أو المصالح الشخصية الدنيوية، بل من بوابة النور الإيماني من كتاب الله الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

إن هذا النجاح – بفضل الله – انطلق من صرحٍ قرآني شامخ هو جامع الخلافة الراشدة في مدينة الرمادي، هذا المعلم الإيماني التربوي الذي احتضن الفعالية بحرمه ومآذنه وساحاته، إذ فاضت أروقته بآيات الله وتزين محرابه بوجوه الحافظين لكلام الله وأشرقت جدرانه بأنوار الإيمان.

كما لا يمكن الحديث عن هذا الإنجاز دون الوقوف بإكبار أمام الدكتور وحيد معيوف هذا الرجل الوقور الذي حمل المشروع على عاتقه فكان مثالًا للقيادة الحكيمة الواعية، والنية الخالصة والتفاني في سبيل خدمة كتاب الله، فقاد العمل بحكمة وعزم وصبر وطول نفس ومطاولة لما زاد عن أربعة أشهر متواصلة، وكان حاضرًا في كل التفاصيل صغيرها وكبيرها حتى خرجت المسابقة بهذه الصورة المشرّفة.

ومن غير الممكن اجتياز “الجنود المجهولين” دون الوقوف بحور عطائهم المميزّة، الذين عملوا خلف الكواليس دون كلل أو ملل ومنهم الأستاذ زيد المعيوف ولجنة التحكيم والكادر الإعلامي والتقني واللوجستي الذين أبدعوا في التوثيق والتغطية وأوصلوا صوت الأنبار إلى آفاق الدنيا وإلى كل متابع وعاشق للقرآن الكريم.

لقد أثبت هذا الحدث العظيم أن الأنبار لا تُختصر في ماضٍ من الألم أصابها ما بين الاحتلال والأمريكي واحتلال داعش، ولا تُعَرّف بمحطات المحن فقط التي عاشتها اثناء التهجير والتشريد، بل هي أنبار القرآن وواحة الإيمان وميدان العطاء وإنها الأرض التي إن أراد الأعداء تغييبها أعادها القرآن إلى المشهد تنبض بالحياة وتفيض بنور الوحي وتزدهر بحمل الرسالة الاسلامية.

طوبى لكم يا أهل القرآن يا من أثبتم أن الأمة بخير، ما دام في أبنائها من يحفظ كلام الله ويعيش به ويتربى عليه، بارك الله فيكم ونفع بكم وجعل القرآن شفيعكم في الدنيا والآخرة.